تراجيكوميديا!

صحيفة الشروق، 18-01-2008

اذا كان العراق هو اول ارض عرفت المسرح بمعناه الواسع لا الديني فحسب ( خلافا لما يقال بان هذا الفن بدا في اثينا )، فان الغريب ان اول نص مسرحي وصلنا على الالواح السومرية، وعليه ملاحظات المخرج هو نص: ” رثاء اور ” الذي يقوم كما يدل عنوانه على تراجيديا مدينة هدمتها الحروب. وفيه تقوم جوقتان بدور رئيسي في الصراع الدائر حول اور. غير ان الملحمة الاكثر قدما في تارخ ما بين النهرين والعالم هي ملحمة الاينوما ايليش التي تسجل صراعا ينتهي بانتصار الاله مردوخ واعادة خلقه للسماء والارض انطلاقا من جسد تيامات الذي يشطره الى اثنين. في حين تدور الملحمة الاخرى الاكثر شهرة، اي جلجامش على فكرة البحث المستمر عن الخلود، اي تقديس الحياة واستمرارها.

لا ادري لماذا دارت كل هذه اللمحات في راسي وانا اقرا دراسة اجرتها بريتش مديكال الانكليزية على جيش الاحتلال الاميركي والبريطاني في العراق. حيث دلت نتائجها، في الجانب البريطاني على اصابة  36الف جندي بامراض عصبية مختلفة و 585 باصابات في الدماغ نتيجة ارتجاجات الانفجارات والقذائف والاسلحة. مما دعا ادارة الجيش البريطاني على دراسة تصنيع خوذات مشابهة لتلك التي يرتديها الجنود الاميركيون والتي تشتمل على اجهزة لقياس موجات الارتجاجات وامتصاص الصدمات . لكن جدوى هذا التطوير تبدو عديمة عند الاطلاع على نتيجة الدراسة نفسها في الجانب الاميركي حيث دلت على ان 9% من العينة التي شملتها الدراسة وضمت 50 الف جندي مصابون باختلال عصبي، و20%  مصابون بجروح واصابات في الدماغ. غير ان نوابا وناشطين بريطانيين اتهموا الحكومة بانها تخدع الراي العام وتقلل من حجم الاصابات.

صحيح ان الحكومة الاميركية قد تكون اقل اهتماما وتاثرا بهذه الخسائر، لان اغلب المصابين من الولايات الفقيرة المهمشة، او من السود او الاسبان غير المجنسين، او الموعودين بالجنسية، ولذلك فانهم لا يشكلون ثقلا في ساحة الراي العام الاميركي. كما ان عقلية المحافظين الجدد النيوليبرالية لا تكترث كثيرا لموت الفقراء طالما انه يغذي ثروات الاغنياء. فهل يابه ديك تشيني لموت جندي في العراق طالما ان دمه يصب في خزائن هاليبرتون مثلا؟ لكن الامر لا يمكن ان يظل كذلك حتى النهاية خاصة اذا تنامت الخسائر وخرجت فضائحها الى النور. اما خسائر العراقيين من مدنيين او مقاومين او متعاونين فلا قيمة لها بالطبع في الحساب الاميركي. ولذلك كان لا بد من تخفيض الخسائر في الجانب الاميركي، على حساب تناميها في الجانب العراقي. معادلة بدت بديهية مع الكلام عن دور الشرطة العراقية والميليشيات المتعاونة مع الاحتلال. لكن الابتكار الاخير المفاجىء تمثل في قصة الصحوات  التي كشف التقرير المذكور على ان ادارة بوش قد رصدت لها 70 مليون دولار توزع على شيوخ العشائر الذين يقبلون بالتعامل، بنسبة 60 الف شهريا، وصفها هؤلاء بانها رسوم ادارية. واذا كانت هذه  المسرحية العراقية  الجديدة تبدو حتى الان تراجيدية محضة، فانها تتحول الى تراجيكوميدية عندما نقرا ان اعضاء في الكونغرس اعترضوا على رقم السبعين مليون. هنا تتجمع عناصر التراجيكوميديا، اولا لان السبعين مليون لا تشكل الا جزءا مئويا وربما الفيا لا يذكر بالنسبة للاموال التي ينهبها الاميركيون من العراق، وثانيا لانها تمنح  ثمنا لعراقيين يقتلون عراقيين، موفرين بذلك الدماء الاميركية وما يمكن ان تسببه من احراج للادارة. وهنا يكتب العراقيون المعاصرون مسرحية جديدة وملحمة جديدة. الاولى يكتبها المتعاونون مع الاحتلال، فاذا هي نص قميء غبي، مداده دم العراقيين من قاتل ومن مقتول، وثمنه جزء لا قيمة له من مال العراق المنهوب يستعمل لافساد قط يلحس المبرد. والثانية تكتبها المقاومة الحقيقية التي تعرف ان البحث عن الخلود لا يمر الا عبر هزيمة المحتل واخراجه وصولا الى ملحمة خلق جديدة!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون