هل يصح تشبيه ما حدث في الانتخابات الفرنسية الحالية بما حصل عام 2002 بين جاك شيراك وجان ماري لوبان؟ في القراءة البرّانية، كي لا نقول السطحية، يبدو الجواب نعم. ولكن قراءة الأبعاد السياسية للحالتين تقول لا وبقوة. وقد يبدو ثمة وجه شبه بين صعود ماكرون وصعود ساركوزي. لقد أنهى ساركوزي حزب الجمهوريين - يمين الوسط -، وها هو ماكرون ينهي الحزب الاشتراكي. ليعاد تشكيل المشهد السياسي الفرنسي وفق انقلاب سياسي يقضي على الثنائية الحزبية التقليدية. كيف ؟ ليس المهم العناوين، بل المبادىء. وقد خاض ورثة شارل ديجول معركة حادة للحفاظ على مبادئ الجمهورية الخامسة التي أرساها، سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، وما يهمنا منها بالدرجة الأولى مبدأ التزام التوازن في الصراع العربي -«الإسرائيلي»، وهو ما كلّفه حكمه بعد حرب حزيران/يونيو 1967. ومبدأ الالتزام بالمتوسطية والأوربة على أساس أن بناء هذين البعدين يشكل قوة توازن تحفظ الاستقلالية عن الولايات المتحدة وعن حلف شمالي الأطلسي. استمرت المعركة مع بومبيدو ومع جيسكار ديستان، لتبلغ أوجها في انتخابات عام 1980، حيث شكّل اللوبي اليهودي منظمة سمّاها: «التجديد اليهودي»، وأعلن أن عملها يتركز في إسقاط ديستان. وكان من الملصقات المشهورة في تلك المرحلة صورة لديستان يقف في الأردن ويحمل منظاراً ينظر من خلاله إلى «إسرائيل». حاول شيراك إعادة إحياء الديجولية بمبادئها هذه، لكن احتلال العراق، والفضيحة المالية التي أثيرت حوله وحوّلته إلى القضاء جعلته يتراجع تدريجياً ويلتحق فعلاً بذيل التنورة الأمريكية عام 2005. وهنا برز نجم شاب اسمه نيقولا ساركوزي، لم يكن يوماً من أقطاب الحزب وعرف أنه مدعوم من اللوبي المالي ومن الولايات المتحدة (كانت زيارته الأولى بعد ترشحه إلى واشنطن حيث زار المكتب البيضاوي والآيباك). كان أمامه شخصيتان قويتان: آلان جوبيه (الملقب بالوريث) ودومينيك دو فيلوبان. فأثيرت في وجهيهما فضائح ومحاكمات وإضرابات واضطر شيراك إلى التخلي عن شعاره: كل شيء إلا ساركوزي. قاد الرجل - انقلاباً - فأعاد فرنسا إلى الأطلسي، سار في الركب الأمريكي، وحوّل الفكرة المتوسطية إلى شرط للتطبيع مع «إسرائيل». في الانتخابات الأخيرة حاول كل الورثة لملمة أمورهم، وبدا فرانسوا هولاند الرئيس القادم الذي سيعيد الديجولية إلى الحياة، فعدنا إلى قصة الفضائح والانقسامات والانسحابات، ومؤخراً قيل على شاشة «فرانس 24» إن رشيدة داتي، هي من كان وراء التسريبات. داتي صديقة ساركوزي ووزيرته وتدين بصعودها إلى سيمون فيل. تفكك اليمين الديجولي وفشل. وجاء دور اليسار الاشتراكي، هذا الذي يبني خطابه وجمهوره على محاربة هيمنة المال وتغوّل الشركات المتعددة الجنسيات وصندوق النقد الدولي وبناء السياسات الدولية على مبادئ الاشتراكية الدولية. قد نقول إن الجميع كان يعرف هذا الهراء، والاشتراكيون هم من أعطى «إسرائيل» السلاح النووي، وهم من شن عدوان السويس، وهم من قصف العراق عام 1991. هذا صحيح، بل إن محللين عرباً يمضون حد وصف الحزب الاشتراكي الفرنسي بأنه فرع لحزب العمال «الإسرائيلي»، كما حيروت الفرنسي فرع لليكود. (لكنْ ثمة رجال كانوا يعارضون هذه السياسات داخل الاشتراكي نفسه، وقد أصدروا مواقف وكتباً يناضلون عبرها لمقاومة تحويل حزبهم إلى ملحق بالأطلسية) وبلوبيهات المال واللوبي اليهودي المؤيد ل «إسرائيل» والذي كانوا يشيرون إليه تلميحاً خوفاً من نفوذه، داخل حزبهم وفي البلاد. ومنهم على سبيل المثال جان بيير شفينمان الذي كان وزيراً للدفاع خلال حرب 1991 واستقال رافضاً ما سمّاه «الارتماء في ذيل التنورة الأمريكية»، مصدراً كتاباً يحلل بعمق موقفه من القيم الجمهورية ومن الاشتراكية ومن العولمة ومستقبل العالم، ودور فرنسا. أبعد الرجل نهائياً عن الحياة السياسية، مثله هيوبرت فيدرين الذي أذكر أنه قال لي بمرارة - بعد انتخاب ساركوزي -: «اليمين لم يعد هو اليمين واليسار لم يعد هو اليسار». يومها تذكّرت مقالاً نشره هذا الوزير الاشتراكي في صفحة كاملة من جريدة «لوموند» في يناير عام 2000 يحلل فيه بالتفصيل أثر منظمات التمويل الأجنبي الأوروبية في تفكيك ونخر المجتمعات العربية، وتحويلها عن قضاياها الأساسية البنيوية (وقد ترجمته في حينها إلى العربية ونشرته). وإذا كان تدمير اليسار الاشتراكي قد جاء على يد فرانسوا فيون، فإنه لا يمكن لعاقل أن يصدّق أن انسحاب الرجل من الترشح للرئاسة وإعلانه افتقاره إلى الشعبية واختياره هامون مرشحاً، كل ذلك كان محض صدفة أو مساراً ديمقراطياً. الكل كان يعرف أن هامون لن يتجاوز نسبة ال 6 في المئة التي حصل عليها. إذاً، لم يكن الأمر إلا كنس الطريق من أمام هذا الشاب الذي جاء من «بنك روتشيلد» إلى وزارة...
المزيد