عندما طرح اعتماد اللغة العربية كلغة اساسية في الامم المتحدة احتج المندوب الفرنسي بان اللغة العربية ليست لغة دقية في تعبيرها، ولذلك فهي لا تصلح لصياغة قرارات المنظمة الدولية. فرد عليه مندوب الجزائر في حينها، الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الضليع في اللغتين معا، بقوله: ساعطيك مثالين على تفوق العربية دقة على الفرنسية:
اولا : في العربية تقول: جلس = كان واقفا وجلس. وتقول: استوى = كان نائما وجلس. فهل تستطيع في الفرنسية ان تميز بفعل واحد ما اذا كان الانسان الجالس امامك قد كان، قبل جلوسه، واقفا او نائما؟
ثانيا: في اللغة الفرنسية تعد حتى الستين، ومن ثم تصبح الارقام تركيبا مزعجا: ستين وعشرة، اي سبعين، ستين وعشرة وواحد، واثنين الخ… ثم اربع عشرينات، اي ثمانين، ثم اربع عشرينات وعشرة، اي تسعين…
بينما تعد العربية حتى المئة بشكل بسيط وواضح.
وقبل سنتين، كنت اقصد جامعة السوربون في باريس فاذا كل المنافذ اليها مقفلة امنيا، وعندما سالت الشرطية عن السبب اجابنتني باعجاب : الرئيس الجزائري يلقي محاضرة في الجامعة هذا الصباح، تعرفين انه من افضل المثقفين الفرانكوفونيين.
تجربة تقدم مثالا على كيفية تحويل لغة اجنبية الى ثروة، ليس فقط في اتساع الافق الثقافي وانما ايضا في ادراك ميزات اللغة العربية والاعتزاز بها. ذاك النوع من الاعتزاز المبني على المعرفة لا على العاطفة الشوفينية فحسب. وعلى الندية الحضارية التي تتعارض مع الانغلاق القاتل كما مع الاحساس بالدونية المميت.
وما جعلني استذكرها هو كم من الصفعات التي شعرت ان خد اللغة يضيق بها كما قلبي وقلب كل من يشعر ان لغته هي وعاء روحه وحضارته. ولعل استذكار بوتفليقة قد ذكرني بمفارقة طريفة هي ان اهل المغرب العربي، يستعملون لمتجر اللحوم اسم المجزرة بدلا من اسم الملحمة الذي نستعمله نحن المشرقيين. والمناسبة اكثر من عبارة مكتوبة او مسموعة احسست فيها ان اللغة العربية تذبح كالخراف وتعلق اشلاؤها على اعواد الاماكن العامة ضلعا من هنا وعمودا فقريا مشطورا الى اثنين من هناك، اما القلب والاحشاء فترمى في ارض واجهة المتجر لانها سقط المتاع.
بدءا من احدى شاشات الفضائيات الخليجية المهمة، ومذيع يتحدث ببلاغة عن “علامات استفهامات “، وانتقالا الى مطار احى الدول العربية وعبارة مطبوعة بالبنط العريض الاسود: ” مدخل المسافرون” ومن ثم الى كاتب ( كما يسمي نفسه) يكتب: ” يوما اسودا ” وبطاقة مكتب محاماة يكتب عليها: ” مكتب محامون ”
القصة لم تعد مجرد حرب على حركات النحو العربي كما تعودنا، حيث يصر المتحثون على ان ” يغيظوا” سيبويه، وينظّموا كلامهم نكاية به، بحيث يرفع المجرور ويجر المنصوب وينصب المرفوع، لكأنما هي اعادة تشكيل المواقع الطبقية، فلماذا يظل ذل الجر حكما مؤبدا على المضاف اليه، ويظل ظلم ان تجر (في) الحقيرة، ملك الملوك، وجبل الشيخ؟ ولماذا تظل الرفعة حقا مقتصرا على من احتل موقع الفاعل والمبتدا والخبر واسم كان وخبر ان؟ والنصب صفة شنيعة ملحقة بالمفعول به والحال وخبر كان واسم ان؟
فلينبر الثوريون المتجرؤون على هذا التمييز الطبقي، وليشقلبوا تراتبية المواقع، ويعيدوا توزيعها عشوائيا طلبا للعدالة الاجتماعية. فمن قال ان لسيبويه الحق في التحكم برقاب تشكيل الكلمات وبملافظ الناس ومنطقهم؟
واما القول بان التشكيل لم يكن ابدا طارئا مجانيا على اللغة وانما هو الضمانة الكبرى لدقة المعنى، فيرد بسؤال ومن قال ان هؤلاء لديهم وضوح في الفكرة وبالتالي في المعنى؟ ومن قال انهم يريدون هذا الوضوح للمتلقي؟
ثم، ما الخطا في ان نقول علامات استفهامات؟ الم يكن يقولها الاتراك الذين استعمرونا مئات السنين؟ وهل قلل ذلك من قيمة باشا او صدر اعظم؟ وما الخطا في ان يكتب في المطار: مدخل المسافرون، طالما ان الموظف البسيط على بوابة العبور الى الطائرة يسالني بلغة المستعمر الذي جاء بعد: “وان بيرسون؟ ” طبعا مع لفظ البي على الطريقة العربية لا بالتشديد الانكليزي. ولا ادري ما الذي في شكلي مما يوحي له بان عبارة: ” شخص واحد؟ ” لا تليق بي؟ بل وربما لانني كنت – بالمصادفة احمل بطاقة درجة اولى – قد اوحيت له بانني من تلك الطبقة التي تتعالى على ان تعبر عن نفسها بالعربية، هكذا… ككل الناس…!! ( مع ملاحظة مهمة وهي ان اكثر الناس استعمالا لتعابير اجنبية ليسوا ابدا من المتقنين للغة الاجنبية المعنية ). فالمسالة مسالة محاولة بائسة للارتقاء الطبقي، وادعاء تافه للرقي الثقافي، واعتراف ضمني بتفوق الاخر الذي نقلنا من نير الانكليزية التقليدية الى نير الانكليزية المختصرة والمولعة بالادغام.
واحد يشعر بانه اقل من اولئك الذين درسوا في المدارس الخاصة واتقنوا الاجنبية، وواحد يشعر بانه اقل من اسياد تلك المدارس الخاصة، الذين غرسوا فيه عقدة الضمور الحضاري، والكل يتوق الى عدم الاهتمام بهذه اللغة العربية التي لا ترفعه الى مصاف اي من هؤلاء، والى التعلق باذيال لغة الاخرين ممن نسميهم ” العالم المتقدم ” هذا العالم الذي يستعمرنا مداورة، وكلما خرج سيد منه من الباب عاد الينا من البوابة الثقافية والحضارية… قبل الاقتصادية.
كم هو جميل ان يتقن المرء لغة جديدة او لغات جديدة لانه بكل واحدة ينفتح على عالم ثقافة جديدة ويتسع افقا وغنى ( هذا اذا اتقن وتثقف). ولكن كم هو قميء ان يدخل المرء عوالم الاخرين وقد اصيب بضمور روحه، وفقدان جهاز المناعة في جسده، وتشوه ملامحه بحيث لا يستطيع التعرف على نفسه في مراة نفسه!
فاللغة ليست الفاظا جامدة وقواعد قاسية وصياغات جاهزة، اللغة جسد الفكرة والفكرة روح الانسان وبفكاك احداهما عن الاخرى يكون الموت. اللغة تعبير الامة عن ذاتها عبر العصور، مخزون تلك الذات الواعي واللاواعي من كل تجليات وجودها، وبتشوش هذا التعبير، بتكسر وبلبلة هذا المخزون، تكون بلبلة الذات القومية وتشوشها، زلزال وجودها وعلامة من علامات انحطاطها!