كنا ننشط لدعم دوربان كخلية نحل، ولم نكن نعرف ان يوما تاريخه 11 سبتمبر سياتي ليقلب الدنيا راسا على عقب. في الاتحاد العام للكتاب العرب نظمنا مؤتمرا دراسيا لمدة ثلاثة ايام شارك فيها عشرون اتحادا ورابطة باكثر من ثلاثين بحثا حول الصهيونية والعتصرية ، جمعنا الابحاث وحملناها مبعوثا الى الوفود العربية في دوربان اضافة الى ما تلاها من مناقشات. كان يبدو ان تجمع المظلومين والمضطهدين من شعوب استعمرت واستعبدت ونهبت، سيتمكن اخيرا من وضع اميركا واسرائيلها في الزاوية. وان مسالة اعادة البحث في مساواة الصهيونية بالعنصرية ستنطلق من جديد. وهناك تحدث عمرو موسى عن الهولوكوستات، في اشارة ان الهولوكوست اليهودي ليس الوحيد، وانه لا بد اخيرا لهذا العالم الذي يصف نفسه بالصناعي او بالشمال او بالمتحضر من ان ينظر الى ضحاياه الذين بنى بدمائهم التي امتصها حضارته.
كان العراق المحاصر يشكل احد بؤر هذا التحدي المستقبلي الذي ستنعكس نتائجه على الكرة الارضية كلها ، ولكن اتحاد كتابه كان غائبا احتجاجا على رفض ادراج مسالة الحصار في البيان الختمي، وكان اكثرنا يرى انهم على حق في ذلك. وكانت فلسطين في مواجهة الصهيونية هي البؤرة المركزية. قدمت بحثين للمؤتمر، ومن ثم شاركت مع السفير ناصيف حتي والدكتور الياس شوفاني في تحليل مجريات دوربان مع التغطية المباشرة على شاشة التلفزيون السوري، في اليوم التالي قدمنا حلقة على تلفزيون المنار وفي الثالث حلقة حادة على شاشة الجزيرة ضمن الاتجاه المعاكس، كانت المواجهة فيها بين القول بعنصرية اسرائيل، وقول اخر يتهم العرب بالعنصرية الحقيقية. كنت اتحدث عن العرب كهوية حضارية ثقافية، وكان محاوري المغاربي يتحدث عن العرب كعرق عنصري. عدت الى عمان، لتقول لي ابنتي ان الملحق الثقافي في السفارة العراقية قد اتصل يقول انه يحمل لي رسالة من بغداد. لم اعتد في حياتي على تلقي رسائل من مسؤولين، الا تلك الاستدعاءات والمساءلات عن النشاط النضالي. ولكن الحصار المفروض على بغداد كان قد عودنا على تلقي الرسائل الشخصية من الاصدقاء مع اي قادم من بغداد. جاءني الرجل، ومضت ربع ساعة دون ان ارى بيده رسالة. سالته. وفاجاني بقوله: هي رسالة شفوية من اعلى مرجع في العراق، تشد على يدك وتهنؤك على نشاطك بخصوص دوربان. المفاجاة جعلتني اساله: من تقصد؟ ليرد: اهذا سؤال يا سيدتي؟ من هو اعلى مرجع في اي بلد؟
السيد الرئيس؟ – بالطبع ومن سواه؟ هل اطلع على ما فعلنا؟ وكتاب العراق لم ياتوا؟ – نعم اطلع وتابع كل التفاصيل. سيادته يؤمن باهمية هذا المؤتمر في زعزعة النفوذ الاميركي والاسرائيلي. تابع التلفزيونات مع ابو زياد ( طارق عزيز ) وكل ما كتب. واسعده ان تكون من تدافع عن العروبة امراة، ومسيحية مارونية، وبهذا القدر من الحجة والتوثيق. يعتقد ان هذا هو الرد الامثل على دعاة التجزئة القطرية والطائفية والدينية والتقليل من شان المراة في بلادنا. لذلك يشد على يدك.
اعود الى هذه الحادثة البسيطة اليوم، في ذكرى استشهاد الرجل العظيم، وانظر معها الى ما وصل اليه الوضع القومي من تجزئة مذهبية ودينية وقطرية، كما انظر الى ما ال اليه حال المراة العراقية، من ضمن دمار كل منجزات التحديث والحضارة في العراق. انظر معها الى حال قادتنا الاخرين وغيابهم عن التفكير بكل هذه المخاطر، بل وتعزيزها وافتعالها حيث لم تكن موجودة ليتقاسموا بفضلها سلطة تملك اكثر بكثير من ديكتاتورية صدام حسين ولكنها لا تملك شيئا من روحه المستنيرة، وايمانه القومي، وحسه بالكرامة الذي رفعه الى المشنقة.