قراءة في قراءة بريجنسكي

صحيفة الشروق، 14-02-2007

“لا شيء في الدانمرك يحصل صدفة       

كل شيء في الدانمرك مدبر         

كي يبدو من فعل الصدفة

من ترجمة نجيب سرور لمسرحية هاملت     

لم يكن المتحدث محللا سياسيا  يجهد في الحصول على بعض المؤشرات والوقائع، وقراءة التاريخ واعمال التحليل ليتوصل الى قراءة المجريات السياسية الحاصلة واستشراف ما سيحصل. لا ولا هو متحدث عادي لا يعيبه كثيرا ان يخطىء في التقدير، فيعود ويصحح خطاه.  وانما هو رجل قضى سنوات في اعلى دوائر السلطة، حيث  شغل منصب مستشار الامن القومي الاميركي، وظل على علاقة بدوائر صنع القرار والجيش والاستخبارات طيلة عقود وما يزال. اما المنصة التي اطلق منها تحذيره الخطير فهي منصة الكونغرس الاميركي وفي جلسة استماع رسمية.

من هناك اطلق بريجنسكي تحذيره  من ان تقدم الادارة الاميركية على افتعال عملية ارهابية استفزازية، ربما على الارض الاميركية نفسها، لاجل التغطية على فشلها في العراق وتبرير خطوة عسكرية تتخذها ضد ايران. وقد كرر الرجل هذا التحذير في خطابه وفي رده على اسئلة النواب مما يكسب الامر دلالات بالغة الاهمية خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار الملاحظات التالية:

1- ان بريجنسكي نفسه خبير بالخطط الاستفزازية وقد اعترف سابقا بانه هو من نظم في نهاية عام 1970 عمليات الاستفزاز في افغانستان حيث وضع خطة سرية لتحريك المجاهدين الاسلاميين لقلب النظام الموالي للاتحاد السوفييتي وبطريقة تجر السوفييت الى حرب مدمرة تستنزف قواه في تلك المنطقة من العالم

2- ان بريجنسكي قد بنى تحذيره هذا على اساس تحليل وموقف واضح من الحرب على العراق – وهو المعروف بمعارضته للحرب عام 2003، معارضة تحولت الان الى نقد حاد  جعله يصفها ب: ” الخطا الفادح، وبالكارثة الستراتيجية والاخلاقية والتاريخية التي نسفت مشروعية الولايات المتحدة الاميركية في العالم ولطخت سمعتها الاخلاقية – بحسب تعبيره. وهو اذ يطلق الاتهام فانه لا يقصر في تفنيده فمن الناحية النتاسيسية الفكرية يدين العقلية المانوية القائمة على مفهوم الخير والشر، كما يدين المواجهة الايديولوجية مع الاسلام الراديكالي التي وصفها بالتبسيطية والديماغوجية، واعتبرها اشبه بحكاية تاريخية اسطورية تستعمل لتبرير حرب مستمرة وربما في طريقها الى التوسع . ومن الناحية السلوكية يدين السلوك الغرور الامبريالي الذي لا يحسب العواقب، ومن الناحية البراغماتية يعتبر ان الحرب التي شنت بحجة اقامة الاستقرار في المنطقة ادت، على العكس من ذلك الى تفعيل حالة عدم الاستقرار الخطرة حتى على الولايات المتحدة نفسها. واذا ما لاحظنا خلفية هذه الادانات الثلاث، فانما نجد وراءها رفضا واضحا لما اسماه هو ” خيار الحرب” مما يعني تفضيل الخيارات الاخرى القائمة اما على الديبلوماسية واما على الخطط الاستخباراتية السرية، واما على بدائل كثيرة، كفك وتركيب التوازنات السياسية، ومثلها الاقتصادية. كما نجد في اساسها ايضا  تخوف واضح مما سيؤدي اليه استمرار المواجهة العسكرية، سواء من تصعيد في قوة المقاومة واتساع في قاعدتها، او من توسيع لرقعة الحرب اذا ما فكرت الادارة المجنونة بمواجهة عسكرية مع ايران.

3- تصاعد المقاومة والمواجهة مع ايران  هما في ذهن الرجل مترابطان بدليل قوله:” اخشى اذا ما استمر الوضع في التدهور في العراق، واذا ما رات اميركا ان لايران دورا في ذلك، متورطة او مسؤولة، او انها مستفيدة من الوضع هناك،ان يراود الادارة الاميركية اكثر هذا الاغراء” ( أي اغراء الحرب على ايران ). هنا تبدو واضحة الاحتمالات الثلاث لتجاوز طهران الخط المتفق عليه مع ادارة المحافظين الجدد: ان تتورط – ان تكون مسؤولة – ان تستفيد. والسؤال البديهي هو: هل كان من المعقول ان تعتقد واشنطن ان طهران ستسكت عن الاحتلال وتسهل مهمته دون ان تقوم بهذه الافعال الثلاث؟ طبيعي ان لا، ولكن ثمة حدود وضعها الاميركيون لكل فريق في المنطقة. وقد كان من الارجح ان يلتزم الجميع بها لو نجحت المغامرة الاميركية وتثبت النظام الاقليمي الجديد الذي كان سينجم عنها. لكن فشل الاحتلال، بل وتنامي فشله يوما عن يوم سيغري أي طرف لديه شيء من القوة وبيده بعض من الاوراق، وفي نفسه قدر من الطموح ان يوسع دائرة مكاسبه، ويدافع عن مصالحه ويحول طموحاته واحلامه الى وقائع، او على الاقل يمهد لها الطريق. متجاوزا الخطوط الحمراء. ذاك ما لن يقبل به ” الغرور الامبراطوري ” وما سيغذي اغراء المعاقبة العسكرية في خياله. لكن المحنكين – كبريجنسكي – سيدركون خطر ذلك، ويرفضونه، خاصة وانهم يعرفون ان بامكان واشنطن ان تعوض فشلها العسكري عبر مناورات سياسية اشد خبثا.

4- للحؤول دون المخاطرة التي ستكون لها – كما قال –” نتائج خطيرة على الوضع الاميركي في المنطقة وفي العالميلجا بريجنسكي ومن مثله الى كشف بعض الاسرار والتذكير باخرى من مثل ما نشرته النيويورك تايمز في 27 مارس 2006 من وقائع لقاء بوش وبلير قبل عدوان 2003، حيث قال البريطاني عن خشيته من الا تجد فرق التفتيش أي دليل على اسلحة الدمار الشامل ورد عليه بوش مطمئنا بان هناك عدة وسائل للاستفزاز الذي يمكن ان يشكل ذريعة للحرب. وقد  ذكّر بريجنسكي بذلك  مضيفا: كانت تلك الوسائل التي ذكرها بوش غير عادية غير معقولة وخاصة احدها…… ولا اريد الدخول في تفاصيلها الان

5-  ربط هذه القصة، وعلاقتها بالحرب على العراق،  والكلام عن الصراع مع الراديكاليين الاسلاميين، والتحذير من افتعال استفزاز ما اذا ما تقررت الحرب على ايران، لا يمكن الا وان تدفع الى الذهن بالسؤال حول احداث 11 سبتمبر وعلاقتها بالحرب على كل من افغانستان والعراق. وكل ما نشره باحثون وسياسيون، بل وما اكده التقرير الاميركي الرسمي نفسه حول علاقة ادارة بوش واللوبيهات المسيرة لها بتلك الاحداث، ان لم تكن علاقة مباشرة من حيث التحضير، او التواطوء مع جهات وعناصر للتحريض عليه، فعلى الاقل علاقة السكوت عن التحضيرات رغم االعلم بها ( دون ان ينتقص ذلك اطلاقا من القيمة الاستشهادية للشباب  الذي نفذوا مباشرة ).

6- البديهية التي لا بد وان ينتبه اليها المحلل، هي ان شن بريجنسكي هجوما على بوش ليس ابدا من باب الحرص على العراق، لا ولا على ايران، فقد ذكرنا انه صاحب خطة افغانستان في السبعينات. انها رؤية اكثر حرصا على المصالح الاميركية لانها تراها من زاوية براغماتية عملية، لا تعتمد على الرؤى الايديولوجية والجنون العسكري، وانما تعتمد على تجنب المخاطر. وحتى في حال الاضطرار الى المواجهات المسلحة فالافضل ان يكون وقودها ابناء البلد المعني انفسهم، على ان يقوم الاميركيون بدعمهم وتحريكهم. انها معادلة اشبه بتلك القائمة بين الليكود والعمل في اسرائيل.

            اخيرا، وليس اخرا،  تؤكد لنا كل قراءة نقوم بها لخطاب او لحدث دولي، ان العراق لم يعد بؤرة تحديد مصير النظام الاقليمي الجديد الذي بشرت به اميركا وهي تلوح بالحرب على بلاد الرافدين، وانما بؤرة تحديد مصير النظام العالمي الجديد الذي اعلنته بعد سقوط جدار برلين. وها نحن نسمع فلاديمير بوتين يدعو اليوم في مؤتمر الامن الاوروبي في ميونيخ  الى نظام عالمي جديد اخر متعدد الاقطاب. انها دعوة لصاحبة الجلالة بالنزول عن عرشها والتقاسم، دعوة لم تكن ممكنة قبل التورط الاميركي في العراق. 

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون