هو ما اوجع نزيه ابو عفش ما اوجعني يوما، نزيه الشاعر الجميل يعلن بصرخة الم: نعم انا ذاهب الى المنفى برضاي وحاجتي وحكمة خوفي، ويمضي حانيا على ذكرى الاشياء التي يوجعه فقدانها، ليست تلك الكبيرة التي اعتاد ان يتحدث عنها اعلام وانما هي تلك الصغيرة التي تلتصق بحياتنا اليومية وتجعل من مكان صغير مكاننا وخلوة حياتنا دون كل الامكنة. تلك التي لاتنتبه الى اهميتها عندما تكون متوفرة. كحبة الاوكيسيجين في الدم – يقول… ويعيدني الى ما كتبته قبل حوالي خمس وثلاثين عاما: ” خذوا كل شيء واعيدوا لي صور طفولتي ودفاتر مدرستي ونباتات العربيشة على نافذتي… لكنهم لم يعيدوا الي شيئا حتى جواز سفري الذي لم اتمكن من استصدار غيره الا بعد سنة من ” مصادرة البيت”( التعبير الذي كانت تستعمله الميليشيات) وخيار الهجرة… الخيار! لا ليست الكلمة المناسبة، الهجرة لم تكن خيارا بل فرض القناص والصاروخ والفرز السكاني في بيروت.
مازالت اشيائي توجعني حتى اليوم، لانني لم اختر فقدانها، ولم يترك لي ان احمل في حقيبتي شيئا منها فقد اكلتها النار. وما زلت انتبه الى الاشياء التي لا نتتبه الى اهميتها. ” كحضن الام ” كتبت عن البحر عام 1982، عندما ذهبت الى العقبة وانتبهت الى شوقي الى البحر الذي كنت اسير بقربه يوميا من بيروت الى البترون
انا الان في مكتبي في الجامعة، اقرا نزيه ابو عفش، وانتبه الى زملائي الذين يسمعون: فلسطينيين، عراقيين، لبنانيين، سوريين… لمن اقرا، ومن منهم لم يوجعه الفقدان القسري.
زميلي السوري، يصر حتى الان على تحدي الفقدان، يذهب في كل عطلة نهاية اسبوع الى دمشق ويعود، فعائلته هناك. لكنه ذهب عذا الاسبوع ولم يتمكن من العودة. انها السكين التي تصر على تقطيع الشرايين وليذهب النزف الى حضن الارض. ليشعر المهجّر بوجع الفقدان، وليشعر المضيف بان الرقعة تضيق لانها لا تتسع للجميع، ولتفتح السفارات الاجنبية ابوابها لمنحنا تاشيرات استنزاف من نوع اخر: استنزاف يفرغ البلاد من قدراتها ومن كفاءاتها، ليحولهم اما الى خدم واما الى كادحين لخير وتقدم تلك الشعوب… هذا ان لم يكن الى عملاء.
غالبيتهم ستنخرط في الحياة الجديدة ويفرحون بما تؤمنه لهم دول الغرب من ” فرصة “، فرصة النجاح في تسول مبلغ تافه اسمه المساعدة الاجتماعية، التي تقتطع من فوائد الثروات التي تسرق يوميا من ارض العرب. ويفرحون بان اولادهم سيصبحون مواطنين اميركيين او اوروبيين، اي مواطني المنتصر لا ذلك المهزوم الذي كان اباهم. اما دم الاب فليذهب الى النسيان، وربما اصبح الحفيد جنديا او خبيرا يساعد في اهدار دم من تبقى على تلك الارض التي كانت وطنا واصبحت وطن الاخر. في احسن الحالات سيساهم هذا الغريب الذي ولد في ظل يمين الولاء في بناء الوطن الذي انتمى اليه ولو على حساب الوطن الذي كان لابيه.
يختتم نزيه:
يوماً ما سأعود (ربما غداً، أو بعدَ جِيلْ..)
يوماً ما سأَحزِمُ أمراضي وخوفي وثيابَ جثّتي.. وأعود.
لكنْ، إلى أنْ يحينَ ذلك الوقت،
ربما يكونُ العالمُ كلُّهُ
قد انتهى مِن إهلاكِ نفْسِه.