رغم كل الدمار الذي يحيط بسورية تبقى هي الدولة العربية الأخيرة التي تجعل نتنياهو يشد الرحال من فلسطين إلى روسيا. هذا قبل أن يبسط الجيش العربي السوري سيطرة الدولة على القصير في إعلان ميداني بأن حرب المدن والعقد الاستراتيجية قد بدأت تُحسم، من نقطتها المفصلية بين لبنان وسورية وحمص وحماة وحلب.
الروس يدعمون دمشق، لكن الحقيقة أنهم يدعمون أنفسهم، وبامساكهم بالمفتاح السوري فإنما يمسكون بمفتاح العودة القوية إلى الساحة الدولية والتمكن من عنق إسرائيل على الساحة الإقليمية. الولايات المتحدة والعالم الغربي يقفان ضد سورية ولكن حقيقة الأمر أنهما يصارعان لبقاء الهيمنة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط، ولأجل حصول أوروبا العجوز على حصة ما من كعكة هذه الهيمنة أو من كعكة البديل الممكن مكانها. والعرب أين هم من كل ذلك أنظمة وشعوبا؟ سؤال يستدعي سؤالا أخطر: هل ما زال هناك شيء اسمه أنظمة عربية، أم أن الأنظمة الفاسدة الخائبة قد استبدلت حينا بفوضى أكثر بؤسا وفسادا أصر الغرب على تسميتها ربيعا، واختارت في مكان آخر أن تلعب دور حارس مصالح إسرائيل وواشنطن ولو بالخيانة والعمالة، ثمنا لبقائها؟ أما الشعوب فمتعبة تتأرجح بين عرض عري واستثارة للغرائز وعلى رأسها غرائز الاستهلاك، على مدى الأربع وعشرين ساعة، وبين وحش بشري يمثل بقتيله ويأكل قلبه وكبده هذا ما أوصلتنا إليه وحشية الكبت المزدوج: كبت القمع وكبت الاستهلاك المتغول.
ولكن أليس بين هاتين الضفتين القاحلتين نهر آخر، مهما تضاءلت مياهه وجففت؟
الجواب نعم، وتتعزز هذه النعم اذا ما فشلت المؤامرة على سورية لينتصر مع ذلك الخط الوطني القومي في العالم العربي كله. لا نقول ذلك من باب من يبحث عن ضوء تفاؤل وإنما بمنطق من يراقب الواقع ويجد أنه رغم كل هذا الطوفان الأسود لا يزال هناك أناس يناضلون لأجل الأفضل. ما زال هناك أناس تظنهم للوهلة الأولى ميؤوسا من أمرهم – خاصة بين الشباب – لكنك ما ان تخاطب عقولهم وتحترمها حتى تجد منهم استجابات تفاجئك. هؤلاء جميعا هم الأرضية التي يجب أن يتركز العمل على تفعيلها. وأقول ذلك من وحي مراقب دائم ومن وحي حدثين مباشرين: تجربة مع طلابي وتجربة برنامج حواري عابر للأجيال شاهدته بالأمس على الفضائية السورية. ففي الأولى يمكن لأستاذ محفز أن يستنفر – خلال فترة غير طويلة – قدرات تفاجئه هو نفسه في طلاب يظن أن الحس النقدي والتحليل العقلاني قد انتزعا منهم، كما انتزع الوحش البشري قلب قتيله. وفي الثانية تجد في برنامج بعنوان ” سورية تتحاور ” منطقا يلتقي فيه الحس النقدي العقلاني العضوي بالموقف القومي الثابت الواضح، لدى رموز من جيل الكبار كما لدى شباب، وبالمقابل منطقا آخر خشبيا ملعلعا سطحيا شعاراتيا سلطويا تفهم منه لماذا نحن فيما نحن فيه. وأخيرا منطق حماسي دفاعي بعيد عن البناء ومتأثر عاطفيا بتداعيات الأزمة بل والمؤامرة. هذا التوزيع لا يقتصر على الداخل، موالاة ومعارضة، وإنما يتوزع أيضا على المعارضة في الخارج. وعليه ستكون معركة الإصلاح بين هذين المنطقين هي المعركة التي ستلي تلك التي بدأت تحسم على الأرض. مع الإشارة إلى أننا عندما نقول المعارضة لا نشمل بها العملاء الذين لا يسري عليهم أي تصنيف، ولا مجانين التكفير الذين إنما كفروا بأنفسهم قبل الآخرين. ولكن من دون أن ننسى السؤال الديالكتيكي: هؤلاء من أين جاءوا؟ ونتاج ماذا؟