هؤلاء الندرة المهتمون بالحياة حد الاستخفاف بمظهر الاهتمام بها، الراسخون في اليقين حد الاستخفاف بالاحتمالات المتارجحة، المقيمون في احترام ما يحترم حد الاستخفاف بكل التفاهات التي يتقاتل الاخرون على اجتذابها لاجتذاب الاحترام.
مؤيد العتيلي، الشاعر والروائي، النقابي الملتزم بالناس بناءا على التزامه بخط فكري واضح، يسار لا يتاجر باليسار ولا يمالىء الرموز لمجرد كونها صنعت كذلك، بل يغني لرموزه التي صنعها الصدق. رجل المواقف الواضحة التي لا تشترى ولا تباع لا باربعين من الفضة ولا باربعين من العقد. حتى في ابداعه، يكتب لانه يجد متعة في ان يكتب ولان لديه ما يقول، غضبا ام حبا، رايا ام شطحة ابداع، وفي كل ذلك لا يفتش عن اعتراف ولا عن اضواء.
واحد من اولئك الذين عودونا على ابتسامة دائمة، وغضب خفي، غضب الحق والعدل والصدق الذي يختزن في الضلوع، زمن الغش والخداع والظلم والاشباع، فيكبر الى ان يضطر الاطباء لفتحها، لنشرها، وصولا الى القلب الذي ضاقت به او ضاق بها. حتى اذا اعيد الكل الى الانضباط، عادت السيجارة الى الشفتين لان العمر لا يتحمل واقعا تافها بدون نفخات ونفثات، تفرج وتقتل معا.
أي عمر نحمله كلنا ولا يحملنا الا الى المرض! عمر القضية الفلسطينية وما الت اليها؟ ام عمر القضية العربية وما الت اليه؟ ام عمر اليسار القومي العلماني العربي وما ال اليه؟ مآلات لا تسمح لنا بالانهزام ولا بالاستسلام واما تستدعينا لنقاتل اكثر، لعناد اصلب والم اكبر. والنتيجة ان يقضي كل منا على طريق.. اية طريق لا يهم، المهم انها هذه الطريق… نقضي فجاة وفورا، او يقضي علينا اهمال طبي وانساني في بلاد تقول ان الانسان اغلى ما نملك! فهل يقتنع الانسان ذاته بانه اغلى ما نملك ليعطي اخيه اهتماما يليق بحياته؟
لم اعرف مؤيد منذ زمن طويل، ولكنني عندما عرفته احتجت لاقل كم من الكلام للتعارف، وفي الجلسات التي كنا نتحسب فيها لراديكالية موفق محادين، وجدنا ان ابا فراس يقع على يمينه، حتى ولو اشتركا في تلك الضحكة اليقينية الساخرة لمعرفتها بكل الخبايا التي لا تجد ضرورة للحديث عنها، وتترفع عن التعامل وفقها، كما في ذلك السلوك الشعبوي الحقيقي الذي يتعامل مع رابطة الكتاب ومع اعضائها بما يفتح الابواب ويقرب الجميع، دون مداهنة في المواقف والاراء.
كانا في الرابطة، ثنائيا جميلا، ردا على زمن التردي السياسي والفكري والابداعي، ترد اسوا ما فيه ذاك الحس الاقليمي الضيق الذي لا يهدد فقط تماسك وابداع الكتاب وانما المجتمع والامة كلها، وترد برز منذ التسعينات – تاريخ بروز النظام العالمي الجديد بعولمته وثقافته الاستهلاكية – تمثل في نقل الساحة الابداعية من ساحة صراع بين اتجاهات فكرية مختلفة، كل منها يسعى لاثبات رؤيته بانتاج ابداع اهم، الى ساحة صراع بين الانتاج التافه والابداع الحقيقي، بين السطحي والجوهري، بين الاستهلاكي والعضوي…. والقش اقدر على العوم فيما تغرق الجواهر في العمق.
لذا لا يعيش الحقيقيون حمى تسويق انفسهم ولا حمى طرح اسهمهم في سوق النخاسة، وينكفئون على المهم وعلى عنادهم مؤمنين بان دور كاهن المجوس هو حراسة الشعلة والتكاتف مع المؤمنين في مواجهة المد الطوفاني، الى ان ينحسر.
لم تكن رابطة الكتاب الاردنيين يوما مجرد نقابة مهنية، بل ان دورها السياسي الوطني هو سجل تاريخي طويل وعميق، حفظت شوارع اللويبدة، ولفترة قصيرة الشميساني، اصداء حيوته وانشطته، معاركه ومواجهاته، اضراباته واعتصاماته منذ ان كانت الرابطة، واتحاد كتاب لبنان، النقابتين الوحيديتين للكتاب غير التابعتين للحكومة في العالم العربي. وتعبر بالتالي عن راي ومواقف فكرية وثقافية وسياسية مستقلة يحملها مثقفون عضويون ومبدعون بارزون مستقلون يتنافسون وفق رؤاهم ومدارسهم وتنظيماتهم دون ان يدخل في هذا التنافس أي منطق اقليمي او طائفي. وفي هذا السياق تعتبر خسارة الرابطة والساحة الابداعية العربية عموما لمؤيد العتيلي خسارة ضلع من اضلاع الصدر وفقرة من عمود الرقبة.
اما اهله، فلا كلام ولا عزاء يليق بخسارتهم، اللهم الا ان هذا الرجل باق بكل هذه القيم، ليس لهم فحسب وانما لنا جميعا.