واحد انهمر علينا من السماء خيرا غزيرا فلم نعرف كيف نتعامل معه لاننا غير معتادين الا على الشح. تحولت شوارعنا الى بحيرات، بحيرات اختلط فيها الماء الذي انهمر صافيا بقذارات الارض وطينها وحصوها، فاذا به طوفان يغرق ولا يحيي. لكن الارض تعرف في النهاية كيف تتدبر امرها وكيف تبتلع كل شيء في جوفها لتصفيه وتعيده الينا ماءا زلالا، كما ارسلته السماء.الم يكن في الاسطورة ان ننخرساج اذا غضبت من زوجها او صنوها اتونابشتيم ابتلعته في بطنها فكان القحط حتى اذا جاء موعد الخصب عادت فولدته من جديد؟!
غضب الطبيعة اسموه، لكنه خيرها يتحول الى غضب عندما نسيء استقباله فيما نحن نستقبل كل مظاهر الاستهلاك والفساد والبريق الخادع لمدن تنسلخ من واقعها الطبيعي ومن واجباتها تجاه البيئة وحالاتها. وتظن انها ان هاجرت الى الحداثة والى الخلجنة ستكون بمناى عن تدبر امرها مع شتاء ميزته المطر… نصلي استسقاءا، فاذا سقينا غصصنا واختنقنا وليس من صلاة مخصصة للغصة او للطوفان لان المبدا “اعقل وتوكل” وان نعقل يعني ان نتحسب لكل الظروف.
طوفان اخر تتمعن به اكثر وان تسير في طوفان الماء الذي يجبرك على التمهل: طوفان حبال الغسيل التي تغطي الشوارع، وجوها وشعارات، فلا الوجوه وجوه ولا الشعارات شعارات، هي المدينة نشرت غسيلها على اعتبار ان ” الدنيا صحو” فاذا بالمطر خلع كل شيء ويغرقه في واقع الماء الطيني. ما تبقى من شعارات ممكنة القراءة لا علاقة له باي تصور لبرنامج انتخابي، باي بند يصلح لان يكون ضمن استهداف انتخابي. عبارات انشائية لامعنى لها ولا مضمون عمليا، لاشيء يتعلق بهموم الناس او بمطالبهم او بحاجاتهم او بهمومهم، كلمات في اغلبها مديح للمرشح نفسه، ومديح مضحك مبك في اغلبه. تتساءل: اين اللجان الانتخابية؟ بل اين بعض الزملاء الصحافيين والكتاب الذين عودونا على ان ينتظروا الموسم ليكسبوا من كتابة الشعارات والبيانات والخطب ما يكفيهم العوز لسنة؟ اين هم جميعا من هؤلاء الذين يطلب منهم الذهاب الى صندوق الاقتراع؟
لكن… هل يذهب هؤلاء الى الصندوق بناءا على محاكمة عقلانية نقدية لبرنامج انتخابي ولما يلبيه من حاجات ومن مطالب، على الصعيدين الخارجي والداخلي؟ ام انهم يذهبون تلبية لتبعيات لا عقلانية ولا اختيارية، تبعيات تشكلت منذ التشكل في رحم الام، وتلبية لحزازات ولردات فعل غرائزية ولعصبيات وفئويات ضيقة، وتلبية لاعتبارت سطحية وبرانية ولاخرى تباع فيها المصالح الدائمة لقاء منفعة صغيرة عابرة؟
هي مشكلة البدء بالديموقراطية من ذنبها، من الاقتراع البرلماني، فاي قيمة لاية انتخابات اذا كانت لن تكرس الا التخلف القائم؟ حيث ان القيمة الحقيقية للديمقراطية تبدا بترسيخ الثقافة الديمقراطية، في كل مجالاتها: الاجتماعية والتربوية والثقافية والاقتصادية واخيرا السياسية، وحتى السياسية فانها لا تكون حقيقية الا اذا بدات بفته باب الصراع الفكري الحقيقي، صراع الرؤى والافكار والمدارس والايديولوجيات والبرامج التي تترجم كلا منها، وصولا الى تمكين المواطن من ان يكون مواطنا بحق، اي ان يحدد موقفه وخياراته بناء على تبنيه الحر لاي خط ولاية مدرسة يرى فيها خير الوطن (السياسة الخارجية ) وخير المواطن ( السياسة الداخلية)، وبناءا على هذا التحديد الواضح تتشكل الاحزاب السياسية كما في دول العالم المتحضرة، بناءا عليه يترشح صاحب رؤية وبرنامج للانتخابات ويقترع الناخب لهذا او ذاك.
بدون ذلك نحن فعلا في طوفان تختلط فيه الماء بالطين بالخشب بالمعادن المخلعة بالقمامة، طوفان نغرق فيه مشاة وركاب سيارات، ونطلق عليه لا شعوريا تسمية بالغة الدلالة: العرس الانتخابي. فهل يمكن ان تكون معركة الرؤى والبرامج عرسا؟ اوليس العرس تلك المساحة القصيرة من الزمن والمكان التي تسودها المظاهر والازياء الغريبة والماكياج الثقيل، وتنصب فيها ” الكوشة” المصطنعة، والموائد السخية المصطنعة، ونقرر فيها ان نترك كل حياتنا اليومية خارجا ونرقص ونغني وناكل، ونعامل العريس كامير، حتى اذا جاء الصباح لم يبق من كل ذلك الا الصور، وعادت الحياة اليومية لتواجهنا بكل تعقيداتها…وربما بديون رتبها علينا العرس.
هذه المرة قرر طوفان المطر اغراق كل شيء، حتى الصور، وكانه يريد ان يقول للجميع: الانتخابات ليست عرسا، انها معركة مسؤولية صعبة في ظروف اكثر صعوبة، تمتد كما العاصفة الثلجية من بيروت الى فلسطين، بل الى كامل سوريا الطبيعية، بل الى كامل العالم العربي.