قال هيرتزل: كلما انقسم شعب إلى اثنين أصبح في قبضتنا.
اثنان! وإذا ما تحول جسم شعب إلى حقل من الكتل السرطانية التي لا حصر لها ولا ضابط لتكاثرها ولا معيار؟ ربما تنطبق مقولة هيرتزل على الدول الديمقراطية الغربية، أيضا، حيث نرى أن اللوبي اليهودي يوزع مراكز قواه على الحزبين: الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، لضمان التواصل أيا كان الفائز، وقد شهدنا مرارا ترشح أخوين يهوديين عن حزبين مختلفين كما حصل في فرنسا مع الأخوين دراي وفي بريطانيا مع الأخوين براون، لكن هذا الانقسام يبقى محدود الخطورة، أولا لأنه يتم في حدود اللعبة الديمقراطية مع ما تفرضه هذه اللعبة من عملية تداول السلطة، وثانيا لأن الشعب نفسه غير منقسم حول هويته الوطنية ووحدة أمته، بحيث ينحصر خلافه في أسلوب إدارة الحكم، محافظ أو ليبرالي أو اشتراكي، خلاف لا يتعدى الوسائل الحضارية السلمية للتنافس. حتى وإن لم يكن هناك تنافس نظيف مئة بالمئة في العمل السياسي.
غير أن الأمر يختلف لدينا في العالم العربي وتحديدا نحن في سوريا الطبيعية، فقد بدأت التجزئة بـ سايكس- بيكو، لكنها كانت تجزئة مدروسة مبرمجة، أشبه بالأمراض المزمنة الخفية، وها هي تتحول اليوم إلى قنبلة عنقودية لا يعرف أحد مآلها. بدءا من العراق ووصولا إلى سوريا، قنبلة لا تعرف صوتا إلا صوت الدم والنار والذبح والتدمير. وليس من باب التنظير أن نقول إن التجزئة الأولى التي تحولت من نصوص وخرائط إلى أخاديد عميقة في النفوس هي ما يسهل الحقل أمام كل أنواع الضلال والدمار هذه، فعنها لم ينشأ البعد الكياني المفتت فحسب، بل ارتبط نشوؤه بالبعد العرقي والإثني والديني والمذهبي والطائفي، وإذا بكل من هذه سيارة مفخخة دائمة ومتصاعدة التفجر.
والنتيجة أن قول الكيانات المحيطة بالذي يقع عليه الدور يتبدى يوما أثر يوم قولا مفرغا من المعنى ومن التطبيق، فكيف تنأى عن نار تأكل طرف ثوبك، إن لم تعمل على إطفائها، وكيف تنأى عن مرض يضرب القلب والدماغ في جسمك إن لم تعالجه منذ البداية وتمنع نموه؟
وكما عجزت الحدود السورية العراقية عن تشكيل حاجز للنأي بالنفس، ها هي الحدود اللبنانية السورية تشكل ساحة اشتباكات باتت شبه يومية، فيما يشكل إقفالها اختناقا اقتصاديا كليا للمزارعين والتجار اللبنانيين، ولن يكون حال الحدود الأردنية أفضل إن استمر الحريق.
رغم ذلك، تتعمق الانقسامات المدمرة والهويات الفرعية القاتلة، مع علم الجميع بأنها مادة الاشتعال. ونترك لأحفاد هيرتزل أن يسعدوا لأن هذا الانقسام يجعلنا في قبضتهم.