الوطن الصغير الجميل، الوطن اللطيف المرهف، تحول فجاة الى مرجل يغلي وتخرج منه شياطين سوداء وعفاريت كريهة، جعلت منه ذلك المشهد المرعب الذي رايناه اول مرة زرنا فيها ساحة البرج والاسواق التجارية، بعد انتهاء الحرب: خرائب رطبة تنبعث منها رائحة العفن، عفن الجثث وعفن الدمار والرطوبة فيما تخرج الجدار شجرة جاء طول ساقها الملتوية لينطق بطول مدة الخراب، وتعرجات والتواءات الزمن غير الطبيعي،وفي الزاوية قشرة افعى طويلة تركتها صاحبتها لتقول ان الافاعي استوطنت زوايا البلد طويلا طويلا دون ان يكون تبديل قشرتها الا تجديدا لحياتها. سبعة عشر عاما من الاقتتال الاهلي كانت كافية لتشكل مصطلح اللبننة، تلويحا برعب يتهدد أي بلد يتفرق اهله اتنيا او دينيا او طائفيا. مصطلح لم يغفل عنه حتى الاوروبيون فاستعملوه لما جرى في يوغوسلافيا السابقة، وكان جان بيير شفينمان وزير الدفاع الفرنسي المستقيل احتجاجا على حرب الخليج الاولى، اول من استعمله بخصوص العراق. ليصبح التحذير الذي اطلقه هذا الرجل في كتابه حول القضية، واقعا عراقيا نسبة بشاعته ورعبه هناك بنسبة حجم لبنان وانقساماته واهميته الى حجم بلاد الرافدين.
فخرنا كلبنانيين، مرضى بفيروس التفاخر، لا يكمن في اننا صدرنا للعالم مفهوم الانتماء الى الطائفة قبل الوطن، فربما كانت الانتماءات الفئوية موجودة ومتقدمة بهذا الشكل او بغيره في عالمنا العربي، وانما يكمن في اننا صدرنا مفهوم بناء الحكم على المحاصصة الطائفية، لا على البرامج السياسية. لا بل وتجاوزنا ذلك الى تصدير اسلوب الاقتتال الداخلي على هذا الاساس.
واليوم اذ تبقى المعادلات هي، هي. دون ان يكون الفرز الطائفي متحققا على الساحة اللبنانية، حيث تتشكل المعارضة من حزب الله وحركة امل، كما من التيار الوطني الحر،والاحزاب القومية، ومن طلال ارسلان وسليمان فر نجيه يدعمها كل من الرئيس الحص والرئيس كرامي. يصبح اساس الفرز موقفا سياسيا يغطى مرة بالاقنعة الطائفية ومرة بقميص عثمان الحريري، مرة بالمحكمة الدولية ومرة بالشرعية الدولية، ودائما بابتزاز بات مبتذلا لمشاعر عداء لسوريا، ولشعارات باتت مهترئة حول السيادة الوطنية والاستقلال. في حين ان هذا الفرز ان هو في الظاهر الا موقف اصطفاف في الخط الاميركي- الغربي، علنا، والصهيوني ضمنا. من خندق، وفي الصف الوطني المتحالف مع سوريا وفي جزء منه مع ايران، ومع الخط العربي المتمسك بخيارات المقاومة في جميع الاقطار، في خندق اخر. هذا الفرز، لم يات على خلفية تشكلت من مجرد مواقف واراء فحسب وانما بات الان واضحا ان وراءه صفقات قد لا يكون لبعض الاطراف فكاك منها، ولاجلها قتل رفيق الحريري. فعندما تسربت قبل فترة الانباء عن ان استبدال بهاء الحريري بسعد لخلافة ابيه وقيادة التيار الجديد الذي تشكل حول موت الرجل، ولم يكن متشكلا حوله في حياته. وربطت هذا الاستبدال بتعهدات سياسية معينة لقاء الحفاظ على تمدد المصالح الاقتصادية لامبراطورية الحريري المالية والاستثمارية، لم تكن هذه الانباء بعيدة عن المصداقية والمنطق حتى ولو كذبها من كذبها، فكلنا يذكر ان بروز سعد واستبعاد بهاء وبهية لم يات الا بعد زيارة الاول لواشنطن وبعد خطاب بهية ذي النفس القومي، في البرلمان وجملتها الشهيرة: ” يقولون لسوريا وداعا ونقول لسوريا الى اللقاء!”
اما بقية الاطراف من مثل سمير جعجع وامين الجميل ووليد جنبلاط فان تفنيد ارتباطاتهم واحقادهم ياتي من باب الاستخفاف بعقل المواطن. افلا يكفي جنبلاط انه ذهب الى مؤسسات اللوبي اليهودي في اميركا مستغفرا؟
والان اذ تتفجر الامور بدءا بمجلس الوزراء واستقالة الوزراء الخمسة، فان ذلك لم يكن مفاجئا لان ما من عاقل يجهل ارتباط حكومة السنيورة، ورئيسها بالذات بتعهدات معينة، من تحت الطاولة، قبل وخلال العدوان الاسرائيلي على لبنان. وكما كان السنيورة مديرا ماليا للحريري الاب يتدبر امر استثماراته وحركة امواله التي فاقت الاربعين مليارا في اقل من اربعين سنة، فانه يستطيع ان يكون مديرا ناجحا لحملة استثمار موته.
وبتعبير اوضح فالمراجع هنا في الغرب تتحدث عن مشروع قرار فرنسي – اميركي يتم التحضي لتبنيه في مجلس الامن، ينص على انزال قوات متعددة الجنسيات على كامل الاراضي اللبنانية، وليس فقط في الجنوب، وتحت البند السابع. قوات تترجم ما قالته المستشارة الالمانية انجيلا ميركل من اننا هناك لحماية اسرائيل، وذاك ما اكده بعدا بالعبارة الصريحة والمباشرة جورج بوش. حماية اسرائيل بالقوة ( البند السابع ) وبواسطة القوات المتعددة الجنسيات ( ولا ننسى ان هذا المصطلح هو ما يطلق على الاحتلال الاميركي في العراق). اذن هو احتلال للبنان بدون تكاليف حرب، وبموافقة ” شرعية ” من الاغلبية الحاكمة. وبذا نفهم تماما ما قاله الامين العام لحزب الله في ظهوره الاخير على المنار من: ” اننا نطالب بالثلث المعطل لاجل كل لبنان وليس لاجل حزب الله او المقاومة “. الامر اذن يتجاوز بكثير قصة المحكمة الدولية التي لن تكون الا مدخلا في الخطة الرامية الى الهدف الاساسي: احتلال لبنان، فتحه على اسرائيل واستكمال تطويق سوريا. ولذا كان المطلب بترسيم الحدود ونشر القوات الدولية التي جاءت بموجب القرار على الحدود اللبنانية السورية في حين ان القرار بمجيئها اتخذ في الظاهر لوقف العدوان الاسرائيلي. من هنا فانه من المؤكد ان قوى المعارضة لن تسمح بتمرير هذا المخطط لانه يعني قضية حياة او موت، ولذا لم تكن استقالة الوزراء من باب الحرد، ولا لاجل المحكمة الدولية، ولذا ايضا قد نشهد في الايام القليلة القادمة بروز خط ثالث ينشق عن قوى الرابع عشر من اذار ربما قاده الوزير بطرس حرب، وربما نجح في انقاذ البلد من الصوملة التي يبدو حتى الان اننا في اتجاه استيرادها بعد تصدير اللبننة.