في بداية الألفية الثالثة صدر كتاب لصموئيل هنتنغتون ، “بعنوان من نحن ؟ تحديات الهوية الأمريكية ” يبني فيه المنظر الأمريكي طرحه لتحديات الهوية على أمرين: الأول هو مفهوم الحديقة الخلفية، والثاني هو مفهوم الكتلة المقابلة. فالحديقة الخلفية للولايات المتحدة هي أمريكا اللاتينية، وهي منطقة تناقض هويتها الهوية الأمريكية بثلاثة محددات رئيسية: الكثلكة مقابل البروتستانتية ، العرق الخلاسي مقابل العرق الأبيض، والثقافة اللاتينية مقابل الثقافية الأنكلوساكسونية.
وإذا ما أضفنا إلى هذه العوامل المصيرية المتعلقة بالهوية، العوامل الأخرى المتعلقة بالمصالح والجغرافيا السياسية، فإن انفصال أمريكا اللاتينية عن الهيمنة الأمريكية الشمالية ونمو مجتمعاتها اقتصاديا وثقافيا يشكل التهديد الأخطر للولايات المتحدة، خاصة مع ما تملكه دول الجنوب من ثروات وقدرات بشرية وتماسك شعبي لا يقوم على نظرية المنفعة الأمريكية وإنما على أيديولوجية التحرر الوطني التي أسس لها سيمون بوليفار. علما بأن بوليفار جمع الدعوة إلى التحرر بالدعوة إلى الوحدة بين دول أمريكا الجنوبية.
من هنا كان للعداء بين هوغو شافيز، وقبله فيدال كاسترو معنى يتجاوز العداء السياسي المرحلي، وتصدي نظام اشتراكي لنظام ليبرالي. كانت اشتراكية شافيز، ذات الخصوصية الجنوبية، هي وسيلته للتنمية في بلاده، ومن ثم للتوعية والحشد ضد هيمنة الولايات المتحدة وإمبرياليتها، تأمينا للتحرر الوطني. مما يثبت أن مشاريع التحرر الوطني في العالم الثالث ترتبط ارتباطا عضويا بالعدالة الاجتماعية. وهكذا تمكن من أن يشكل عدوى اجتاحت القارة الجنوبية كالريح، لأنها خاطبت ضميرا شعبيا يتوق إلى هذا المشروع التحرري العدلي. من دون أن يعني ذلك عدم وجود شرائح كبيرة لا مصلحة لها في العدالة الاجتماعية لأنها تنتزع ما تتمتع به من ميزات مص دم الناس، وعليه فهي مرتبطة، بدورها عضويا، بالليبرالية الأمريكية وهيمنتها ولا أهمية في حساب هؤلاء للتحرر الوطني.
وعندما تكون موضوع هذا الكلام دولة نفطية بامتياز وذات ثروات أخرى هائلة، بل إنها إحدى دولتين أسستا الأوبيك، وأصبحت مع شافيز تقف ضد هيمنة الولايات المتحدة على هذه المنظمة، فإن التحدي بين المشروعين يكتسب بعدا إضافيا أكثر شراسة. وبهذه الشراسة حاولت واشنطن القضاء على شافيز وتجربته، لكنها عندما تأكدت من عجزها على ذلك هادنته ظاهريا، خاصة مع التحاق معظم الدول اللاتينية بركبه. ومع انضمامه إلى روسيا وإيران وإلى حد ما الجزائر في الدعوة إلى تأسيس منظمة لكبار منتجي الغاز، دعوة تم إفشالها، حيث لم يكن لواشنطن من حليف ضمنها إلا قطر، وبذلك يفهم الدور الكبير لقطر في ليبيا وسورية.. الغاز الذي بات يشكل كلمة السر في كل حروب و”ثورات” القرن.
بغير هذا التحدي المتعدد الأبعاد لا يمكن فهم المواقف الدولية والعربية لهذا الزعيم الراحل الكبير، ولا يمكن فهم تجربته أصلا. وبذلك أيضا يمكن فهم المواقف الدولية من وفاته، حيث شهدنا شماتة مخزية في الإعلام الفرنسي، على سبيل المثال، وتناولا انتقاميا من الكثيرين من العرب. لأن أولئك الفرنسيين هم جماعة الأطلسي الذين حاربهم شافيز، وهؤلاء العرب هم الامتداد العربي للشرائح الملتحقة بالمشروع الأمريكي والعاملة على خدمة هيمنته ضد مشاريع التحرر الوطني، مقابل مكاسب سلطوية واقتصادية فردية أو شرائحية يؤمنها لهم هذا الالتحاق على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب.
ومن هنا نأتي إلى النقطة الثانية في نظرية هنتنغتون: الكتلة المقابلة. حيث يقول إن تماسك الهوية الوطنية، بشكل عام، والهوية الأمريكية بشكل خاص، يحتاج إلى وجود كتلة مقابلة تقدم للجمهور كتهديد، وبما أن الكتلة الاشتراكية التي كانت تؤمن ذلك لأمريكا قد انهارت ولم تعد خطرا، فقد كان لا بد من خلق كتلة جديدة، وبعد محاولات (يذكرها بالتفصيل) وجدت الانتلجنسيا الأمريكية أن أفضل من يلبي هذه الحاجة هو الإسلام السياسي. وعليه لا بد من دعم انتشاره في كل العالم الإسلامي ودعم تحويل هذا الانتشار إلى كتلة واحدة ( كالكتلة الاشتراكية) لتأمين الكتلة المقابلة الضامنة لتماسك الهوية الأمريكية.
من هنا أيضا يمكن فهم مواقف هوغو شافيز من هيمنة الإسلام السياسي ودعمه للأنظمة التي كانت تعتبر خصما حقيقيا للولايات المتحدة وسياساتها. كما يفهم موقف جماعات الإسلام السياسي من موته، وكأنه تخلص من عدو.
ذهب الرجل الذي كان ابنا تاريخيا لسيمون بوليفار، والأهم الآن أن يكون له أبناء تاريخيون يتابعون مسيرته.