عندما تعرف ذاتك القومية جيدا، بمعنى معرفة دقائق تراثها وحاضرها، ايجابياتها وسلبياتها، وتنغرس جذورك عميقا في ترابها، تصبح معرفتك العميقة للاخر وانفتاحك عليه تقاطعا افقيا مع الاول العامودي ينتج عنها امران: قدرتك على التفاعل مع هذا الاخر، على الافادة منه، وافادته دون عقدة تعال او عقدة نقص جاهلتين.دون عدائية مطلقة ودون اية تبعية.
وعندما تكون ابن امة كامتنا لها في ذمة الحضارة الانسانية ما لنا، وتعاني في حاضرها مما نعاني تقف امام صعوبة فائقة في تحقيق هذه المعادلة التي تعني جوهر الفرق بين صراع الحضارات او صدامها.
واذا كان مما لا شك فيه ان في العالم الغربي قوى تعادينا حضاريا وسياسيا، ولا تنظر الينا الا كمشروع ابتزاز ثروات واستثمار موقع ستراتيجي، فان فيه ايضا قوى تقاتل وتناضل بحس ثقافي وانساني للحفاظ على الحوار والتفاعل معنا، وتنتصر لقضايانا القومية والانسانية.
الفئة الاولى من القوى هي التي تنظّر، منذ انهيار جدار برلين، لصراع الحضارات، وتستفيد منه الى ابعد الحدود. والقوى الاخرى هي التي تنظّر لحوار الحضارات وتفاعلها. وفي عودة الى كل منظرّي المحافظين الجدد، وعلى راسهم هنتنغتون، نجد الزبدة في كتابه ” من نحن؟ تحديات الهوية الاميركية ” حيث يحدد رائد الصراع، الهوية الاميركية بثلاث: العرق الابيض، الثقافة الانكلوساكسونية، والمذهب البروتستانتي. كما يقول، ان هذه الهوية غير قادرة على التماسك لاسباب كثيرة الا بوجود عدو مكافىء. وبما ان هذا العدو كان مؤمّنا بوجود الكتلة الشيوعية، فان انهيارها ابرز الحاجة الملحة الى عدو، عدو لا يمكن ان يؤمنّه، حجما وقوة، الا الاسلام، ولاسباب كثيرة، بينها منافع كثيرة لا حصر لها. اهمها ان هذا العداء يبرر لواشنطن السيطرة على الدول العربية والاسلامية بطريقة او باخرى ( سلما او حربا ) بحيث تصبح هذه السيطرة السلاح الاميركي الافعل في سياق نمو اوروبا والصين، وفي سياق تصلب الخطر الاول على الولايات المتحدة والمتمثل في اميركا الجنوبية ذات العرق الخلاسي والمذهب الكاثوليكي والثقافة اللاتينية.
وايا يكن النقاش حول هذا المفهوم فانه يتحقق على الارض بشكل حاسم ودقيق. ومن هنا فان اية سياسات اعلامية تعزز العداء بين الاسلام والمسيحية، او تعزز العداء لاوروبا بالمطلق، انما تعزز عقلية الصراع خارج السياق الذي يجب ان يكون فيه الصراع، وتحرف المعركة عن سيرها الاصيل، وتخدم السياسة الاميركية بشكل لا يقبل الجدل ( فما جورج بوش وبن لادن الا وجهان لعملة واحدة ).
واذ ان هذا الموضوع قد شغلني بعمق منذ سنوات نشطت فيها في مجال حوار الحضارات في الوقت الذي كنت انشط فيه في الدفاع الراديكالي عن كل قضايانا القومية والحضارية، وادفع الثمن غاليا. فقد وجدتني انحاز الى الذين يرون، من خلال معرفتهم العميقة بالغرب، خاصة الغرب الاوروبي، ان دعم قوى الحوار هو الذي يدعم مؤيدي مواقفنا في اوروبا، في مواجهة مؤيدي الاسرلة والامركة الذين ينشطون مدعومين بحدة على تلك الساحات كما يقدم وجهنا الحضاري الذي يفرض الاحترام والمحبة اذ لا تكفي صورة الضحية التي تستجدي الشفقة المذلة. وقد اعادني ذلك الى حلم قديم كنت قد تحدثت فيه منذ زمن مع الدكتورة غادة الكرمي الخبيرة في تاريخ العلوم عند العرب، ومع عدد من الاخصائيين العرب والاوروبيين والمستشرقين وعلى راسهم الفرنسي المرحوم جاك بيرك مترجم القران الكريم و الاسباني فريديريكو مارتينيز الخبير بعلاقة الاداب الاوروبية بالادب العربي والاستاذ مصطفى الشريف الفيلسوف الاسلامي والاستاذ في الكوليج دو فرانس و في جامعة الجزائر والدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي وسواهم. لتتبلور رؤية ترجمتها عمليا من خلال وضعي كاعلامية، بالعمل طيلة سنة كاملة مع اصدقاء من جامعة السوربون ومن جامعات عربية على بلورة مشروع تلفزيوني يتناول الجسور الحضارية التي مدها التاريخ بيننا وبين القارة القديمة، فيتبدى من خلال ذلك ما اعطيناهم وما اعطونا، وكيف كان التاريخ ساحة يتم فيها تبادل كرة العطاء الحضاري، ويتم فيها البناء والتقدم كلما تم تفاعل محترم.
حملت مشروعي وبثقة عمياء قدمته لمعظم الفضائيات والمنتجين العرب بدءا من قناة الجزيرة على يد مدير الانتاج فيها الصديق عباس ارناؤوط، الذي قال لي انه سيعتبر المشروع مشروعه ويدعمه بكل ما يستطيع، ولم اتلق ردا من المنتجين الا من واحد قال لي انه بصدد تنفيذ الفكرة نفسها. فسررت وعرضت عليه ان اعطيه ما لدي.
ولا ادري ما اذا كان هذا التنفيذ هو مارايناه على قناة الجزيرة قبل ايام في برنامج الاسلام واوروبا، لان الحلقة قد تبنت تماما الشكل الفني الذي قدمته انا. لكنها قدمت ضمن ذلك الشكل مجزرة سياسية حضارية بحيث انها قفزت بسطحية هائلة على جملة مواضيع وجملة قضايا وجملة احقاب تاريخية لتمسخ الفكرة كلها بشكل قاتل.
اولا روح الحلقة لا تركز على شيء الا على العداء والكراهية والاحباط بشكل مباشر او غير مباشر.
ثانيا كنت قد اقترحت ان يقوم الشكل على محاولة شاب عربي( او شابة ) البحث عن ارث ومنجزات اجداده في اوروبا، ولا ادري لماذا تحول الامر الى اختيار مراسل صحافي اميركي اسود في الشرق الاوسط يبحث عن ارث الاسلام في اوروبا. وبذا ينطق الفيلم بالانكليزية.
ثالثا اختيار مرحلة الاندلس والقفز من ايطاليا وصقلية الى اسبانيا الى فرنسا جعل الامر اشبه برحلة وطواط تستعرض السيارات الفارهة اكثر مما تتعمق في المنجز الحضاري.
رابعا لم تتعمق الحلقة في المنجزات الحضارية بقدر ما ركزت على الاضطهاد والعداء عند سقوط الاندلس ولم تتحدث عن العرب اكثر مما تحدثت عن اليهود، بل ان ما من جملة تقريبا خلت من ذكر اليهود وافاضت في الحديث عن وزير يهودي لدى ايزابيلا وممول يهودي ورحالة يهودي رافق كولومبوس في حين مرت على ابن رشد في دقيقتين.
خامسا عند المرور بفرنسا استعرضت واجهة معهد العالم العربي لتقول انه واجهته بنيت على الطريقة الاندلسية دون ان تقول اسمه بالعربية او بالانكليزية ( اكتفت بلفظه مجتزءا وغامضا وبلفظ سيء بالفرنسية ) ولم يترجمه المترجم، بل قال انه مؤسسة اسلامية ولا يقولن احد ان ذاك من باب الصدفة.
سادسا السطحية والعبور السريع لم يقتصرا على ابن رشد بل وسما كل شيء وكمثال صغير، عند الحديث عن الفلامنكو اكتفى المعلق بالقول ان هذا النوع من الغناء يشبه الغناء العربي، في حين توجد مئات الدراسات على اصول الفلامنكو العربية الشعرية والموسيقية، من الموال لحنا ومضمونا واستهلالا، الى النوتة،الى الايقاع الى مضمون الشعر المغنى.
سابعا: لا ادري لماذا نخجل من ان نعترف بان ارض الاندلس ليست بلادنا، ليست لنا، وان الاسبان لم ” يغزونا ” عندما حاربونا لاخراجنا منها، لاننا كنا محتلين كما كانوا هم في فترات اخرى محتلين لبلادنا، لانها طبيعة الامم ان تتمدد عندما تتعاظم وتقوى. وهنا نملك ميزة اقامة المقارنة بين المسلك الحضاري لاحتلالنا والمسلك غير الحضاري لاحتلالهم.
وفي المحصلة يخرج المشاهد العادي من الحلقة بانطباع فوري بسيط هو ان الاوروبيين الكاثوليك اضهدوا اليهود والمسلمين بالتساوي، بل اضهدوا اليهود اكثر، ولا يوضح لنا شيئا من التراث الاندلسي العظيم في العلوم والفنون والفلسفة وعلم الاجتماع والاداب، كما لا يمر بالمعمار الا باستعراض جزئي سريع غير مفهوم ولا يصّور من التاريخ الا ذكرى معارك الهزيمة ولا من ملوك الاندلس الا ابو عبد الله الصغير الملك العاجز الجبان الذي لم يشتهر الا بتسليم مفاتيح غرناطة وبجملة امه: لا تبك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال.
تركيز للاحباط للكراهية للحقد ولا شيء من تركيز الثقة بالنفس وبالتاريخ او من تركيز المعرفة، وربما حالة سيكولوجية من تبرير ما يفعله بنا الاميركيون ( لان الجميع هكذا )
سؤال اخير: ما مصلحتنا كعرب؟ وما مصلحة الاسلام في كل ذلك؟