الرجل العجوز الذي يسمي نفسه او سموه سفيرا في باريس، يطلق خطابا خشبيا تعود مصطلحاته وصياغته الى لغة الخمسينات، وينهيه بالقول المشدد : سنقاتل حتى يوم القيامة ! السيدة الهادئة الجميلة تتحدث بموضوعية وحداثوية، مطالبة بالتغيير ولكن على اساس احترام التعددية والحفاظ عليها كسمة حضارية من سمات البلد الالفي الحضارة، وتدعو الى الحفاظ على مؤسسات الدولة، خاصة الجيش، لان من سياتي بعد الاسد لن يستطيع بناء دولة، لا ولا اصلاحا بدون مؤسسات. الاول يمثل الائتلاف السوري المعارض، والثانية تمثل التيار التعددي المعارض.
كلاهما يتحدثان من باريس، حيث الهدوء والامن والغذاء والدواء، والليالي الملاح لمن يعيش في السلك الديبلوماسي ولا مهام ديبلوماسية لديه. لكن العجوز يبدو محمولا بحقد سلطة فقدها وفريقه منذ عقود، ابعده عنها الحكم الحالي، والسيدة الشابة تبدو محمولة بصورة سوريا المستقبل، المستقبل الافضل غير المقطوع عن ميزات ومنجزات الماضي، والمصلح لاخطاء وشوائب هذا الماضي. والمتداخل الثالث – الذي يتضح من لهجته انه غير سوري، ينهر الرجل العجوز مذكرا اياه باننا لم نعد في عهد داحس والغبراء، ويروح محللا معطيات الموقف الروسي ومجريات الحوار مع وليد المعلم، وارتباط ذلك بالموقف الاميركي، لكن العجوز يبدو اصما لا يسمع كلمة واحدة ويعود الى خطبته العصماء التي لا ترد فيها كلمة جديدة عما سمعناه من شعارات واتهامات بعضها مضحك. فهل اننا تجاوزنا فعلا حرب البسوس ؟ وهل في حرب البسوس شيئا يشبه الثورة ؟ وهل يقصد الرجل المفترض انه ديبلوماسي انها لن تنتهي الا بابادة طرف وترحيله ؟
والاطرف انه يشبه ما يحصل في سوريا بفيتنام وكوبا، كانه لم يسمع ان معركتي هذين البلدين جرت تحت عنوان التخلص من الامبريالية الاميركية، في حين استدعى “ثوار” سوريا منذ الاسبوع الاول التدخل الغربي العسكري في بلادهم لانهاء مرحلة التحرر الوطني والعودة الى الانتداب الفرنسي او السلطنة العثمانية او الى حلة جديدة اطلسية او اميركية. لكن المشكلة في ان المستعمر نفسه قد غير اسلوبه، ولم يعد مستعدا لخسارة ابنائه وماله وسمعته لاجل تحقيق مصالحه، بل بات يريد لجماعته ان يقاتلوا لتحقيق ما يريد بارواحهم وباموال غيره وان يدمروا بلادهم بايديهم.
انه مشهد نموذجي للعقليات التي تتحكم بالقتال الدائر في سوريا. ونموذج لما يراد استبداله ( بشار الجعفري مثلا بهذا الرجل المضحك ) وكذلك نموذج لما يمكن ان يتحكم بامكانيات الحوار المقترح. ففي المعارضة السورية عقليات وطنية علمانية قومية يسارية وحتى اسلامية معتدلة، لكن الائتلاف يختار ممثليه من اهل الكهف او من بعض الشباب الذين لا يفقهون شيئا في السياسات الوطنية والدولية، ويكفيهم من الدنيا اقامة في فندق او شقة فخمة، ودفتر شيكات وظهور على شاشات التلفزيون وتواصل مع جهات اجنبية طالما حلموا بالتواصل معها، وهم المهاجرون الذين لا حق لهم في ذلك الا حين الحاجة…حاجة الاخر لترتيبهم واستعمالهم ضد بلادهم.
غيران هذا الصراخ لا يعني شيئا في صيرورة الاحداث واتجاهها نحو المفاوضات، فلن يقاتل احد حتى يوم القيامة، اللهم الا اذا كان تقدم البعض في العمر لن يسمح لهم بان يروا نهاية القتال. لكن المؤسف في الامر ان تدوير الزوايا الحادة اللازم لحصول المفاوضات سيستغرق وقتا. فلا السعودية تريد حلا اقليميا تكون ايران طرفا فيه، ولا قطر تريد حلا تستبعد هي الاخرى منه، وعليه تناكف جارتها فيما تجلى باقتراح وزير الخارجية القطري انشاء مجلس تعاون للدول المطلة على الخليج (بما فيها ايران ) ولا تركيا تريد حلا يؤدي الى انتقال النار اليها، فيما مصر تريد الحل لكنها لا تملك اليات تحفيزه، اما ايران فتلتفت الى محادثاتها في كازاخستان التي ستترك نتائجها ظلالا على الوضع السوري محليا ودوليا. ولذا ينتقل الملف الى المعادلة الدولية حيث يبدو ان الولايات المتحدة قد اوكلته لروسيا ولكن دون كارت ابيض. فيما خرجت منه اوروبا نسبيا بغرق فرنسا في مالي.
وقت تشتد خلاله حمى المواجهات، مما يعني مزيدا من الدمار ومزيدا من الضحايا.