بين نارين

الربيع العربي، 22-01-2013

منذ بداية الثمانينات كان المحللون الاستشرافيون يقولون ان االتطولاات المدفوعة على العالم العربي تتجه نحو وضع المواطن بين خيارين : اما الاصولية الاسلامية واما النيوليبرالية الغربية وعلى راسها الاميركية. بل انني اذكر ان بيانات سياسية بهذا الصدد قد وزعت في الجامعات اللبنانية مع بداية الحرب الاهلية. كان هذا التحليل صرخة نداء لاجل صيانه المشاريع الاخرى : القومية على تعددها واليسار الذي لم تكن كتلته الدولية قد سقطت بعد. جاءت كامب ديفيد وما تبعها من تحولات في السياسة المصرية لتؤكد هذا التخوف، ومع قرقعة جدار برلين عام 1989 ازدادت حدته حيث وصل مع ازمة العراق ثم حصاره واحتلاله وما اعقب ذلك الاحتلال الى احلال المعادلة المذكورة بشكل واضح لا يقبل الجدل. واصبح الخيار في معظم الدول العربية بين نظام وتابع للامبراطورية الاميركية يستقوي بها على ناسه ويحمي فساده وقمعه وبين معارضة قوامه الاقوى والاشد تمويلا هو التيارات الاسلامية. حتى المقاومات من لبنان الى فلسطين الى العراق اصبحت مقاومات اسلامية. واضطر القوميون واليساريون الى التراجع الى الوراء والانكفاء وراء الاسلاميين. وذلك  بفعل صدمة العراق، وصدمة هيمنة القطب الاميركي الواحد التي بدت قدرا ابديا. صدمتان جعلت الجميع يفكر بانه لا سبيل لمقاومة التطبيع مع اسرائيل والخضوع لهيمنة الدولة العبرية ولا سبيل لمقاومة الانظمة التي باتت تشعر بانها تستطيع ان تفعل ما تريد طالما انها ترضي واشنطن، الا بالتحالف مع الاسلاميين والقبول بقيادتهم. جماهيريا كان هناك عنصر اساسي وهو ان الاحباط الكبير الذي اصاب الناس جعلهم يفكرون ببديل لم يجرب بعد طالما ان من جرب فشل فشلا تاريخيا ذريعا. كان الشارع يغرق وظن ان الاسلاميين هم خشبة الخلاص الوحيدة المتبقية.

تطور الاحتقان حتى الانفجار الحتمي، وكانت الثورات التي بدا في الظاهر ان محركها الوحيد هو المطالب المعيشية. واذا كان ما من شك في دور هذه المطالب في تحريك الجماهير عبر التاريخ، لكن ثمة محرك اخر اكثر عمقا، لا يقل تاثيرا وان لم يظهر على السطح، الا وهو عنصر الحرية. وليس المقصود هنا فقط الحرية الفردية بل كلا الحريتين : حرية المواطن وحرية الوطن، فالمواطن الذي يثور لغياب حرياته يثور اكثر لغياب احساسه بالكرامة المتاتية من سيادة وطنه ولا يمكن ان يجتمع عنصرا الاذلال الفردي والذل الجمعي مع عنصر الحاجة دون ان يحدثا التفجير. ولمن يشك في هذا التحليل ان ينظر لما يتحمله المواطنون عندما تكون هناك ثورات ضد محتل في مختلف انحاء العالم واحساس بالكرامة الوطنية.

غير ان الثورات الت الى واقع جديد، فقد ادى التفاف الاسلاميين عليها ومصادرة نتائجها الى كشف هالتين عن هؤلاء : الاولى انهم لم يعودوا المعارضة، بل اصبحوا الحكم، وبالتالي اصبحوا المطالبين بما كانوا يطالبون به : التعددية، احترام الاخر، حل القضايا المعيشية، الموقف الواضح من الولايات المتحدة، من الغرب ومن اسرائيل، خاصة اتفاقيات السلام وموجباتها. والثانية انهم وبفعل ذلك كله لم يعودا الفئة التي لم تجرب وانما الفئة التي تحت التجربة.

جاء هذا التحول مواكبا لتحول اخر، كبير ومصيري، هو تغير موازين السياسة الدولية، فلا شك ان الولايات المتحدة ما تزال قوة عظمى ولكنها فقدت ال التعريف، وعادت التعددية الدولية لتقول لكل الانهزاميين عندنا ان هيمنة النيوليبراليين الاميركيين وهيمنة الغرب وهيمنة اسرائيل ليست قدرا ابديا. منطق جديد تجلى للمرة الاولى في حرب تموز 2006 وعندما كرت مسبحة الحراك العربي،انتقل الى ساحة اوسع هي الساحة السورية التي سيحسم عليها مستقبل المنطقة وربما العالم. حسم ميزته انه لا يمكن ان يقبل ببقاء الامور على ماهي عليه بل سيفرض تطورا اصلاحيا يغير في طبيعة النظام وسلوكياته، لكنه لن يسير الى حكم الاسلاميين ولا الى هيمنة الامبريالية الغربية والاميركية.

هنا دفع الى الساحة السلاح الاخير والاشد عنفا، الجماعات التكفيرية المسلحة ( ولا نحب ان نسميها الجهادية على طريقة الغرب،لان الجهاد مصطلح – قيمة)، واوكل اليها امر التدمير الجهنمي، وبالتالي دفع الحكم الى التشدد في الحل العسكري ونسيان مطالب الاصلاح ودفع المعارضة الى الغرق في هذا الحل، من جهة، ومن جهة ثانية فرض الشرخ المذهبي والطائفي على منطق النزاع وسلوكياته.

وكانت السمة الجديدة والفاضحة هنا هي تماهي التكفيرية التدميرية مع المشروع الغربي، كي توضع المعارضة نفسها بين احد هذين الخيارين وكي يوضع النظام في زاوية استرضاء الثاني ليتمكن من مقاومة الاولى، لتعود النتيجة فعليا الى المعادلة نفسها : اما الغرب واما الاسلاميين.

غير ان الاحداث تثبت ان ثمة من لم يستجب لهذا الفرض في الجهتين: الحكم والمعارضة. خاصة وان التطورات على ساحات الدول العربية الاخرى تدلل على ان الطرف الذي كان مضروبا بصدمة ما بعد التسعين قد استرد وعيه، وان ثمة تيارا ثالثا سيبرز في نهاية المطاف متجددا وليس جديدا. ولكن كم سيكلفنا ذلك؟ سؤال يبقى في ضمير الغيب.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون