شرفتي مغلقة من جانبين، بحيث يتحول الرابع الى اطار مستطيل للوحة ربما لم ترسم يوما : بركة واسعة في قلب غابة من صنوبر ونخيل وكل ما يتداخل من خضرة في مهرجان فوّار ينفتح كرقم سبعة او كشارة انتصار على البحر…هذا المتوسط الذي يصلني بالساحل السوري الذي عبره الفينيقيون الى تونس والجزائر قبل ان تعبره كل سفن الامبراطوريات لتوحد بالحرية والحضارة كما بالاستعمار من يعيشون على شاطئه الشرقي والشمالي.
لكن. هل هذا المنظر الخيالي هو كل مدينة الجزائر؟
جولة النهار تقول ان الطبيعة هي هي، وان كانت كتل المدينة المختلفة تجعل منها ابعادا غير متجانسة، كما هي حال المدن الكبرى والالفية… عند البحر يافطة تقول: الساحة الالفية، ويسال زميل اجنبي : لماذا الالفية؟ لا يعرف كم يفخر العرب والمتوسطيون بالفيتهم الحضارية…بتمكنهم من الاستمرار والاستقلال رغم كل محاولات طمس وجودهم.
هنا في قصر “ريّاس البحر” تاتيك فيروز : “عندك بحرية يا ريّس…حلوة وشرقية، يا ريّس”. هنا تاريخ الصراع بين الشرق والغرب، في هذه النقطة التي تقف على حافتيهما، صراع لم يبدا بالاستعمار الفرنسي، فالقصر يروي حكاية : هجوم الاسبان على المدينة من البحر، واستنجاد الجزائريين بالعثمانيين الذين جاؤوا فحكموها وعاش قائدهم في هذا القصر على الشاطىء. تفهم اكثر العنصر الاسلامي في الثقافة الجزائرية، حيث ثنائية المسيحي-الاوروبي والمسلم -الشرقي تتكرر من الاسبان الى الفرنسيين. ثنائية لم نعرفها في المشرق حيث كان الصراع مع الاستعمار يتشكل وفق ثنائية تعددية: العربي – مسلما ومسيحيا، في مواجهة الاستعمار، الشرقي العثماني او الغربي الفرنسي والانكليزي.
داخل القصر خصائص معمارية رائعة لا جديدة فيها علي انا التي تعرف الشام وارض الديار
طرقات تتلوى صعودا وهبوطا في كنف الخضرة، والكاتدرائية الوحيدة في الجزائر : ” سيدة افريقيا ” بناها المستعمرون في اجمل موقع من المدينة، يذكر بسيدة حريصا في لبنان، ولكن باضعاف اضعاف الجمال والدهشة.
دهشة من نوع اخر عند عبارة مكتوبة على تمثال السيدة في الساحة : ” سيدة افريقيا تدعوكم لان تصبحوا قابلين للمقارنة مع من استحقوا نعمة الكثلكة ” !! اية دهشة ! هذا هو الفكر الاستعماري الظلامي يشوّه كل شيء حتى الدين. متى كانت المسيحية لتقبل هذا التعالي على الاخرين؟ ومتى كان “ابن الانسان” لمجموعة غير ” بني البشر ” الذين ما انفك ذاك الناصري يذكر بانه جاء لاجلهم، وان كنيسته لهم جميعا. لكأنه الفكر التكفيري يتكرر منذ اسطورة ” الشعب المختار ” في سياق معاد للانسانية وللعدالة وللمحبة، لكل قيم البناء والسلام.
في طريق اخر بيوت بائسة، احياء تتناقض، وتترك السؤال : اي دور لهذا التناقض، في دولة من المفترض انها اشتراكية، في نمو التيارات المتطرفة وفي الحرب الاهلية البشعة التي عاشتها البلاد؟ سؤال لا بد وان يجد اسبابه التخفيفية في نسبة الامية التي تركها الاستعمار الفرنسي ( 82%) والتي استطاعت البلاد ان تخقضها الى 35% خلال الخمسين سنة الماضية. في نسبة المشاكل والازمات التي تعرضت لها البلاد منذ الاستقلال : الازمة مع المغرب التي كادت تتحول الى حرب، ازمة الصحراء، ازمة الحرب الاهلية واخيرا الازمة الاقتصادية. اسباب مضافة الى الحقد الاجنبي على دولة عربية ثرية وكبيرة ووصلت الى الاستقلال والى تبني نهج معين… لكنها كلها لا تشكل مبررا كافيا للتعامي عن الاسباب الداخلية التي لا تختلف من بلد عربي الى اخر : غياب التعددية،غياب الحياة السياسية الحقيقية، الفساد وبالتالي غياب معايير القانون والمساواة… امور كثيرة تنادي الاصلاح الذي ينتظره كل المخلصين الذين يؤمنون بانه حق للناس ومصدر قوة وحصانة ضد المؤامرات الاجنبية التي تستعمله ذريعة للتدخل ولاجتذاب الناس، وان كذبا. خاصة في بلد كالجزائر يملك الثروات الهائلة التي يسيل لها لعاب الغرب، وتشكل نموذجا لتحديه ولماض ما تزال بعض الانظمة التي تسمي نفسها عربية تحمل له من العداء اكثر مما يحمله الغرب.