هيبة الدولة، هيبة الامن

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 25-08-2012

عائدة من بيروت اقف في طابور الجوازات، وعشرات مثلي ينتظرون بشكل طبيعي. رجل يحمل بيده حوالي ستة جوازات، ووراءه رجلان وثلاث نساء، يصرخ بعالى صوته مخاطبا رفيقه وعيناه تجحظان غضبا : ” هاك هوي الوكيل، هونيك هونيك، روح له ” الاخر يهدئه : بلاش يا، خلاص. وهو يعود الى الصراخ : لا قال شيئا عن السوريين الذين ياتون من بيروت، بدي فهمه. رفيقه يمتثل، والضابط ياتي اليه قائلا بملل : يا اخي قدم جوازك.

كان جميع المسافرين ينظرون باستغراب : لو اننا راينا شرطيا يخاطب مواطنا بهذه الطريقة الاستعلائية التي تقدح شررا، لادناه، وربما تدخلنا لنقول : عليك ان تحترم الناس، وربما اذا كنا من اهل الفصاحة لالقينا محاضرات في حقوق الانسان والدولة الحديثة وفظاظة رجال الامن وضرورة تاديبهم !! وربما وصلنا بالنتيجةالى انه لا بد من الربيع العربي للخلاص من هذه السلطة. ولكن ان نرى مواطنا، بل ولاجئا يكاد يمسك بخناق ضابط الامن لمجرد انه سمعه من بعيد يعبر عن حذره من هؤلاء القادمين من لبنان، فانه لامر يثير الاستغراب واكثر من سؤال. خاصة وان هذا يحصل بعد يوم واحد من احداث عنف وشغب دامية تمتد جذورها الى اشهر وتكاد تنقل الحريق السوري الى بلاد الارز، بعزيمة اهل البلاد ولكن، ايضا، بمشاركة السوريين والوافدين من كل العالم لللمساهمة في اشعال الفتنة. فيما لم يعد احد يخفيه لا في العالم العربي ولا في الخارج، سواء من مسؤولين او من محللين، عن العمل الحثيث لتصدير الازمة السورية ببعدها العسكري الى لبنان والاردن والعراق.

والاسئلة الاكثر خطورة في هذا السياق تبدا بواحد حول مصدر هذه القوةالتي يتصرف بها شخص يفترض انه لاجىء وانه يتعامل وفق ذلك مع الدولة المضيفة او على الاقل انه يتعامل مع المسؤول الامني في معبر حدودي بادب واحترام لوظيفته قبل شخصه. فقد جربنا ذلك، يوم هربنا من الحرب الاهلية اللبنانية، ولا اعتقد ان احدا كان يسمح للبناني يومها بالتطاول على سلطة قانونية.

غير ان السؤال الثاني والاهم هو من اين تنبع هذه السلطة على السلطة؟ والى ما يستند هذا الرجل الذي قدم بمظهر لا ينم الا عن شخصية ( بلطجية ) فيما ترتدي زوجته فوق ما تبقى من وجهها، نظارات من ماركة باهظة الثمن؟ وكيف سكت ضابط المطار متجاوزا عن شغبه بعبارة قدم جوازك، وكانه يقول: وخلصنا من شرّك.

لقد ناضلنا عقودا ضد قمع “الشرطي” بما حملنّاه اياه من معان مجازية، ولكن علينا ان ندرك اليوم، وبكل وضوح ان اضعاف الاجهزة الامنية والعسكرية في بلد ما، ما هي الا وسيلة لتفكيك الدولة، تفكيك ندفع ثمنه نحن كمواطنين فردا فردا، ولاجيال قادمة. وبذا لا يكون تغاضي الدولة عن سياجها الا عملية انتحارية، لا تشبه تلك التي ينفذها مناضلون او مقاومون لاجل اهداف عليا، وانما تشبه سير الشاة الى الذبح. فلا دولة بدون هيبة للدولة، ولا هيبة للدولة بدون هيبة قواها العسكرية. فما قيمة السياسة ان لم يكن لها جيش يحميها ويمنحها ثقلها؟ وما  قيمة الاقتصاد ان لم يكن له امن يحمي حركته، وحتى القضاء الذي يعتبر معنويا واخلاقيا اعلى سلطة في الدولة، ما قيمته بدون  ضابطة عدلية وقوى امنية تجعل من كلامه فعلا؟

قاعدة تنطبق على كل دولة في العالم، وقد عشنا في الغرب طويلا وراينا كيف تقدس دولة كفرنسا مثلا جيشها وقواها الامنية وحتى اجهزتها السرية، لانها تعرف انها رموز سيادتها وضمان بقائها ووحدتها، ولكنها تقدس الى جانب ذلك ايضا حقوق الانسان وحقوق المواطن في اطار دولة القانون. غير ان هذه القاعدة العامة تتخذ بعدا اخر عندما يكون البلد،  كما هو حال البلدان العربية – وخاصة الاردن ولبنان حاليا – مهددا بسيادته، مهددا بامنه الوطني والفردي، مهددا بوجوده ووحدته، ومهددا بموقعه على خارطة الشعوب المتحضرة، عبر امتداد عنف لا يهدف الى اقرار الحريات والعدالة السياسية والاجتماعية ودولة المواطنة مما لا معنى للديمقراطية بدونه، بل يهدف الى تدمير مؤسسات الدولة وتحويل الناس الى تجمعات متقاتلة بهمجية تحقق التدمير الذاتي  الذي يعيد البلاد الى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة، الى العصر الحجري الذي هدد به وزير الخارجية الاميركي يوما الشهيد – الحي  وزير خارجية العراق، طارق عزيز.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون