آمي.. ميرودور وتهجير يهود فرنسا

صحيفة الخليج، 03-04-2005

لم يكن الاستفتاء الأوروبي الذي انتهى إلى نتيجة اعتبار “إسرائيل” خطراً على السلام العالمي هو منطلق اتهام أوروبا بمعاداة السامية. حيث أن ذلك الاتهام بدأ قبل الاستفتاء المذكور. ولم يكن تركيز ذلك الاتهام على فرنسا تحديداً من قبيل المصادفة.

عشرات الحوادث المفتعلة وقليل من الحوادث الحقيقية، وحملات إعلامية مرعبة لم تتوقف يوماً عن ضخ الصورة المهولة: فرنسا بلاد لاسامية.

إحصائيات وزارة الداخلية تدل على أن حوادث العنف ذات الطابع اللاسامي تشكل واحداً في الألف من الحوادث المسجلة طوال العامين الماضيين، والحملة لا تأخذ بالاً ولا تتوقف عن التصاعد.

حاخام يهودي يدعي أنه تعرض للطعن ثم يبين التحقيق أنه هو من طعن نفسه، شاب يهودي يدعي أنه تعرض لاعتداء ثم يتبين أنه كان واحداً من عشرة شباب اشتبكوا فيما بينهم، ثم الفتاة ماري والحادثة الشهيرة التي هزت فرنسا لمدة شهر كامل، تدعي أن أربعة شبان عرب وسود قد اعتدوا عليها في محطة مترو ورموا طفلتها الرضيعة أرضاً ورسموا على جسدها الصليب المعقوف، فتقوم القيامة من رئيس الدولة إلى رئيس الوزراء إلى ممثلي الطائفة اليهودية الذين احتلوا وسائل الإعلام على مدى الأربع والعشرين ساعة في حملة منظمة تهوِّل لاسامية فرنسا وتتهم العرب والسود، ولكن لا تلبث التحقيقات أن تظهر أن الفتاة قد جاءت إلى المحطة على الحال الذي ظهرت به، ولتعترف من ثم أنها فعلت ذلك بمساعدة زوجها، بعدها تظهر على شاشات التلفزيون لتعتذر للشعب الفرنسي وللحكومة لكنها لا تعتذر أبداً للذين اتهمتهم… المهم أن الحملة الإعلامية كانت قد آتت أكلها، وكأن الحل المألوف بعدها الادعاء بأن الفتاة مختلة عقلياً. بعدها جاءت حادثة إحراق المركز الثقافي اليهودي في الدائرة الحادية عشرة، لتترافق مع زيارة سيلفان شالوم إلى العاصمة الفرنسية، ولتأتي بالوزير الضيف وبجميع مسؤولي الدولة إلى المكان، في إطار حملة إعلامية رهيبة لم تكن إلا استمراراً لسابقتها… ولكن لتكشف قوات الأمن بعدها أن حارس المركز هو الذي أحرقه.

المحللون السياسيون كانوا يرون في ذلك عملية تتجه نحو ثلاثة أهداف متوازية: ضغط لتحويل سياسة فرنسا الشيراكية عن خطها السياسي المتوازن في التعامل مع القضايا العربية، و”إسرائيل” تعتبر التوازن انحيازاً للعرب. ومن جهة أخرى عملية إرهاب فكري ونفسي تمارس على الفرنسيين كي لا يتجرأ أحدهم على الاعتراض على هيمنة اللوبي اليهودي على الدوائر السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية الفرنسية، بل استباق مبرمج لأي اعتراض يمكن أن يتبلور ضد مرشح يهودي للرئاسة المقبلة.

غير أن الهدف الثالث من هذه الحملة ظل إلى حد ما في دائرة الظل إلى أن كشف عنه بشكل مباشر وصريح أرييل شارون في العام الماضي، ألا وهو دعوة يهود فرنسا للهجرة إلى “إسرائيل”.

دعوة شارون هذه لم تأت من فراغ، ففي العام 1983 وفي حديث إلى صحيفة “معاريف” تحدث شارون عن فضيلة اجتياح لبنان قائلاً: إنها جعلت العالم يكره يهوده مما سيؤدي إلى دفعهم إلى الهجرة إلى “إسرائيل”، وقال الرجل الذي كان يومها معتكفاً في مزرعته إثر التحقيق معه بشأن مجزرة صبرا وشاتيلا: أنا مستعد، لأجل هذه الهجرة، أن أجعل الأرض تشتعل تحت أقدام يهود الدياسبورا، حتى ولو اقتضى الأمر نسف بعض الكنس اليهودية في أوروبا لجعلهم يهرولون راكضين إلينا. (الحديث ترجم إلى الفرنسية ونشر في كتيب صغير ترجمناه إلى العربية ونشر في “الخليج” قبل عامين).

من 1983 إلى 2004 لم يغير الرجل استراتيجيته، بل الأصح القول إن هذه الاستراتيجية ليست خاصة بشارون وإنما هي لب المشروع الصهيوني الذي تقوم على تنفيذه الوكالة اليهودية منذ أكثر من قرن.

وفي الأسبوع الفائت، ظهرت إلى العلن مأسسة هذا المشروع في مرحلته الحالية وفي شقه المتعلق بتهجير اليهود الفرنسيين إلى “إسرائيل”، حيث أعلن خلال ثلاثة أيام، في “إسرائيل” وباريس عن حدثين مترابطين: الأول يوم 14 مارس/ آذار الماضي حيث احتفلت الصحافة “الإسرائيلية” بولادة جمعية حملت اسم (آمي)، وأعلن عن أن هدفها هو تشجيع هذه الهجرة. ومن ثم أطلق الفرع الفرنسي لهذه الجمعية في احتفال حضره جميع مسؤولي المنظمات اليهودية في العاصمة الفرنسية.

وبعد ذلك بيومين فقط نشرت الصحافة الفرنسية خبر زيارة سالاي ميرودور مدير الوكالة اليهودية للهدف نفسه.

ميرودور كان واضحاً ومباشراً في تعبيره عن أمله في أن تتضاعف هجرة يهود فرنسا خلال ثلاث سنوات، وذلك مع توافر الخطة الاستراتيجية والدعم المالي. كما اعترف بأن عدداً من المتطوعين الصهاينة سيأتون من “إسرائيل” في إطار حملة تتناول صفوف الطائفة في فرنسا لإقناع الشباب اليهود بالهجرة.

في كل ما أعلن عن الموضوع وحوله ثمة أكثر من نقطة تستحق الملاحظة:

الأولى أن الأسلوب الذي أعلن عنه في تنظيم هذه الهجرة، والمعايير التي ستعتمد فيها يذكران بما نعرفه عن تنظيم الهجرة اليهودية في ألمانيا النازية وذلك من حيث الفئات التي ستمنح الأفضلية ومن حيث الإجراءات، إذ سيكون المقبولون من فئة الشباب أو ذوي الاختصاصات العالية، وستنظم لهم دورات إعداد خاصة قبل قبول هجرتهم، دورات لإتقان اللغة العبرية، ولفهم الصهيونية ومن ثم للإعداد المهني بحسب الاحتياجات “الإسرائيلية”.

الملاحظة الثانية هي التي وردت على لسان ميرودور عندما قال: نحن لسنا بحاجة إلى الكثير من الإقناع بالنسبة لفرنسا، حيث أن عشرات الشباب هنا يتمنون الهجرة بحكم قناعاتهم الصهيونية والدينية. وليس المطلوب منا إلا مساعدتهم على تحقيق أمنيتهم.

الملاحظة الثالثة هي أن مشروع تفعيل الهجرة هذا لا يقتصر على فرنسا وإنما هو، كما أعلن منظموه، عبارة عن حملة دولية، أعطيت فيها فرنسا موقع الأفضلية.

وهنا تبرز الملاحظة الرابعة التي قد تكون معروفة، وهي أن ميرودور ومثله المسؤولون الآخرون قد اعتبروا هذه القضية مفصلية، لأسباب أيديولوجية واقتصادية ولكن فيما هو أهم من ذلك لأسباب ديموغرافية، حيث أعلنت الدوائر “الإسرائيلية” المختصة أن عدد العرب في “إسرائيل” قد بلغ نسبة عشرين في المائة عام 2005 وهي نسبة مرشحة للتزايد.

غير أن الملاحظة الأخيرة، والتي قد تكون الأهم فهي أن الوكالة اليهودية إنما حددت فترة الخمس سنوات القادمة كفترة مناسبة لنمو الهجرة، وبالتالي لحل الكثير من المشاكل المذكورة، بناء على توقعاتها بعودة النمو الاقتصادي إلى “إسرائيل” خلال هذه السنوات، وكلنا يعرف أن كلمة “عودة النمو” إنما تعني عودة الحالة الاقتصادية التي أعقبت اتفاق أوسلو.

اللافت في ما أعلن عن هذه الخطة أنها ستمارس عملها على أساس انتقائي، إذ ستختار من بين الطلبات التي تتلقاها النخب المؤهلة، أو من ستخضعهم لدورات إعداد خاصة على رأس ما تتضمنه إتقان اللغة العبرية ومن ثم توزيعهم على تخصصات مطلوبة. الانتقائية والإعداد، يعيداننا إلى الأسلوب الذي كأن يتم فيه تنظيم هجرة اليهود من ألمانيا النازية في نهاية الثلاثينات قبل أن يقام الجسر البحري بين هامبورغ ويافا. إعداد اليهود الألمان تركز بشكل أساسي على التدرب على الأعمال الزراعية والعسكرية، فعلى ماذا سيتركز تدريب اليهود الفرنسيين الآن؟

الحكومة الفرنسية اعتبرت دعوة شارون، في العام الماضي، إهانة لبلادها. فماذا ستفعل الآن إزاء مأسسة هذه الدعوة؟ أم أن أكثر من سبب سيدفع بها إلى الصمت: حملة الاستفتاء على الدستور الأوروبي الجارية حالياً، والتي يعتبرها شيراك حاسمة بشأن سياسته، اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وحاجته إلى اللوبي اليهودي، وأخيراً سيف المحاكمة في قضايا فساد، محاكمة تصبح ممكنة عندما يفقد الحصانة الرئاسية؟ هذا إضافة إلى صعود ساركوزي اليهودي المؤيد بحماس ل “إسرائيل” إلى قيادة الحزب الحاكم مع طرحه مرشحاً محتملاً لانتخابات رئاسية، في معركة بدأها بزيارة لواشنطن اجتمع خلالها بالايباك قبل أن يزور البيت الأبيض، وأعقبها بمشاركة في مؤتمر هوتزليا. وها هو رئيس الوزراء يتبعه إلى “إسرائيل” مسترضياً.

فهل اختار اليهود موعد إعلانهم مصادفة؟

لكن ألا تستطيع الجهات العربية، والفلسطينية تحديداً، إثارة هذه القضية بشكل مكثف في وسائل الإعلام بحيث تضعها في دائرة الضوء، وفي الظروف ذاتها؟ ومتى يصبح للصوت العربي والإسلامي الحاضر بكثافة استثنائية في فرنسا ثقله؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون