قبل خمسة عشر سنة جاءنا الى عمان كاهنا صغيرا، يؤجر بيتا ويستعير كنيسة راهبات الوردية في عمان للصلاة، واليوم يغادرنا اسقفا لمصر والسودان. غير ان اهمية المطران جورج شيحان لا تقتصر على ما انجزه من بناء صرح عمراني كبير للكنيسة المارونية، لم تعرفه سابقا هنا، على بعد ساعتين من مهد المسيح وكنيسة قيامته، وساعة من مكان عماده، مازجا عبق ارز لبنان بعبق صنوبر عمان، بل تتعدى ذلك الى ما استطاع بناءه من علاقات انسانية بين اللبنانيين والاردنيين على اختلاف اديانهم وطوائفهم، ومع مختلف جهات البلد، رسمية وشعبية.
واليوم اذ يتخذ البطريرك الراعي قرارا بترقية شيحان الى رتبة اسقف وايفاده الى بلاد النيل، فانما ياتي ذلك تكريسا لهذا السلوك الحضاري وارساءا لدلالة هي الاهم، مشرقية المسيحية، ومشرقية الكنيسة المارونية واصالتها. كنيسة هي اكبر من احلام محدودي الاحلام وجهلة التاريخ الذين ارادوا لها لفترة ان تنحصر بحدود لبنان، بل جزء من لبنان، وان تتحول الى جسم غريب مرتبط بالغرب ان لم يكن بغيره.
اذكر زيارته الاولى لمنزلي، وكان لدي اثنان من الزملاء من كبار الكتاب العرب : اماراتية وعراقي. ذهب ليعبرا عن مفاجاتهم بخطاب كاهن ماروني يحمل كل معاني الانفتاح والرقي والمحبة، بعيدا عن اي تعصب. كنا خارجين من الحرب اللبنانية القذرة، وكان لبنان احوج ما يكون لان يغسل وجهه من الغبار القذر، خاصة مسيحييه. كان الموارنة بحاجة لمن يبرهن للعرب، بانهم لا يختصروا في الحواجز وميليشيات حرب الجبل ومجرمي صبرا وشاتيلا. لمن يعيد الى الاذهان ان الموارنة هم تلك الحالة الاصيلة التي تمتد من انطاكية حتى كل حدود المشرق العربي. انهم من احتضن العلم و صان المكتبة واللغة، وحمى الوطنيين، في اديرتهم حتى خلال عصور الانحطاط. واول من ساهم في النهضة العربية منذ انطلاقها في بداية القرن الماضي. هم من لجات اليهم ام فخر الدين المعني لتخبىء ابنها وتوكل اليهم تربيته الى ان عاد اميرا ثائرا بانيا محررا، بالتحالف مع والي حلب ووالي عكا. هم ناصيف وابرهيم اليازجي وبطرس وسليمان البستاني وعشرات اللغويين الذين سهروا على بعث احياء اللغة العربية والمبدعين الذين اثروها.
واذ نكتب لنحيي الاسقف الذي يغادرنا، فلانه عمل في خدمة استرجاع الوجه المشرقي الوطني للكنيسة. وجعلها حضن اجامعا للتعايش والمودة والوحدة، لا مجرد منشاة لجالية منعزلة عن محيطها. في تجسيد للنموذج الفريد الرائع الذي شكلته بلادنا : “انطاكية وسائر المشرق” للوحدة في الحضارة والوطنية والتعددية في طريق عبادة الله. حيث كان حظنا الفريد على هذه الارض ان نكون مهبط الاديان السماوية، لا ناخذها عن احد، ولا تشكل لنا اية قطيعة مع تاريخنا وتراثنا. وبناء على هذا الواقع التاريخي الذي لم نختره بل اختارته لنا السماء، كنا اهل التعددية في الوحدة. طالما ان الاسلام والمسيحية قاما على اللاكراه، في اول تجل انساني حقيقي لحقوق الانسان وحرية المعتقد. ولذلك فان هذه التعددية هي المستهدفة، بتخطيط ستراتيجي مبرمج يرمي الى افراغ هذه المنطقة من خصوصيتها الحضارية، ومن مسيحييها، لتنزع عنها ميزتها التعددية.
تخطيط بدا منذ قرن ونصف بترسيخ مفهوم الاقليات، وبتضافر بؤر جهل مسيحي مع بؤر جهل اسلامي، واستهداف الطرفين لشحن كل منهما ضد الاخر، في جو يغيب عنه مفهوم حقوق المواطن لتحل محله حقوق الجماعات على اختلافها، ويسود فيه نمط الاستقواء بالاجنبي على اي اساس مفتعل. لكن بؤر وعي ظلت تقاوم وتفعل لانها قصة اعجاز الايمان ولو كان بحجم حبة الخردل. وعي بكون الدين رسالة محبة اولا واخيرا، ورسالة نهوض حضاري ووطني يجمع ولا يفرق، رسالة تعمل على الروحي والانساني وتترك السياسة لاهلها الا فيما تعلق باخلاقياتها ومبادئها.
لم يكن الاب شيحان يكثر من الكلام، لكنه شكل نموذجا في الوعي، المحبة، الانفتاح، العمل، الجد والانجاز. ليترك لنا ان نفتقده وان نتمنى له النجاح على ساحة قد تكون اشد الحاحا وصعوبة: مصر والسودان.