بسرعة لم نكن نتوقعها عدنا الى نسب التسعين بالمئة. فما كدنا نستبشر خيرا بنتائج الانتخابات الرئاسية التي عبرت عن تعددية المكونات السياسية لشعب مصر، وانتهت الى فوز لم يتجاوز النصف الا بقليل وبحكم دستوري كرس هيبة القضاء واستقلاليته، حتى عدنا نسمع من اوساط الرئيس المصري ان الاستطلاعات اثبتت ان تسعين بالمئة من الشعب المصري يؤيدون الاعلان الدستوري الذي اصدره… دون ان يسال هؤلاء انفسهم : من اين جاء كل من نزلوا الى الساحات والميادين ليعارضوه؟ او ان يذكروا ان الذين انتخبوا ضد الرئيس مرسي يشكلون تقريبا نصف سكان مصر يضاف اليهم الذين تحولوا من تاييده الى معارضته وهم انصار معظم الاحزاب ( التيار الشعبي، الاشتراكيون الثوريون، الوفد، وحزب الدستور) ومعظم الرموز القومية والليبرالية والوطنية التي وقفت معه ضد احمد شفيق وهم يقفون اليوم جميعا في صفوف المعارضة الحادة. مما يجعل المعارضة منطقيا تتفوق تفوقا كاسحا على الموالاة التي انحصرت في الاخوان وجزءا من الاسلاميين الاخرين.
كان الحكم الاخواني قويا بتحالفاته التي عبرت عن مرحلة تعددية جديدة وقبول للاخر في اطار ائتلاف لمصلحة الوطن والمواطن، لا شك ان الاسلاميين يشكلون جزءا قويا فيه لكنهم لا يستاثرون به. ومن هنا فان الاولويات قد تختلف بدليل ما قاله محمد البرادعي لقناة الحياة من ان الثورة لم تقم للمطالبة بتطبيق الشريعة والحدود والهوية، بل للمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم”. وفي ذلك حق لكل من شارك فيها. اضافة الى الوجه الثاني من المشهد وهو ان الاقصاء السياسي هو السبب الاساسي لتكتل الجميع ضد مبارك ونظامه، ولذا فها هم يتكتلون ضد من اصابته عدواه حينما جلس على كرسيه.
مخاض صعب يطرح السؤال الصعب : الى اين تسير الامور في ظل تصلب المعارضة، وتصلب الرئيس؟ هل سنرى مصر الولاّدة كما يصفها ضميرها وشاعرها احمد فؤاد نجم تستولد من الثورة ثورة ومن التغيير تغييرا الى ان تستقر الامور على اقتراح حضاري ايجابي تاريخي يترك تداعياته على المنطقة كلها؟ ام سيستولد التشدد تشددا وعنفا يؤديان الى حرب اهلية وعنف يتركان تداعياتهما على المنطقة كلها؟ اوليست مصر دولة الاقتراح كما يصفها ضمير اخر من ضمائرها، نادر فرجاني؟
“الزمن راح وانت جاية” قال نجم. وقالها معه الجميع عندما اندلعت الثورة في ارض الكنانة ضد حكم حسني مبارك، ولكن زرقاء اليمامة قالت يومها ان اندلاع الثورة دون مؤطرات فكرية سياسية اجتماعية سيجعل من التفاف الاخوان المسلمين عليها امرا شبه مؤكد في ظل وضوح البرنامج السياسي لديهم وغيابه لدى الاخرين، وفي ظل تقدم التنظيم لديهم وغيابه لدى الاخرين وفي ظل الدعم المادي والمعنوي،الذي تؤمنه دول الخليج الغنية وصاحبة الامبراطوريات الاعلامية لهم، واخيرا لا اخرا في ظل دعم اميركي كان يبدو امرا خاضعا للنقاش الى ان اتضح ذلك في مسار الاحداث التالية واخيرا تصريح خيرت الشاطر لصحيفة نيويورك تايمز الاميركية بالحرف : نحن جئنا الى الحكم بدعم اميركي مقابل تعهدنا بالالتزام بامن اسرائيل.
ولكن الاهم هو ان تفوق الاخوان لم يكن خطرا لو انه اقترن بقبول الاطراف الاخرى وسعى الى حكم ائتلافي او على الاقل احترم وجود الاخرين في صياغة الدستور الذي تتخطى فاعليته مرحلة هذا الحكم او ذاك.
ان اي تغيير يظل منقوصا ومحفوفا بخطر العودة الى الديكتاتورية ما لم يكن قائما على اساس عقلية ديمقراطية وثقافة ديمقراطية وايديولوجية ديمقراطية. لذا لا بد من تجديد الثورة من ضمن جدلية الثورة نفسها. ولا بد من القيام بذلك بحرص وحذر لان مصر ليست خارج دائرة المؤامرة، ولا ننسى ان معاريف كتبت يوم احتلال العراق: “اما مصر فهديتنا الكبرى”!! مصر التي تشكل بتنوعها وتسامحها و«أزهرها» و«حسينها»،بتاريخ الحياة السياسية الحزبية التي عاشتها والنهضة الثقافية الفكرية التي حققتها والارث الثوري الذي جعلها وحده تقود العالم العربي هي محط الآمال وليس سواها: لا في المحيط ولا في الخليج! ليس كمصر من يستطيع أن ينقذ الشرق العربي والأوسط الكبير من الصراعات الهامشية: الطائفية والمذهبية والإتنية. وليس كمصر من يستطيع أن يطوّر تجربة عبد الناصر في كل أبعادها التحررية والتحريرية والاجتماعية وأن يُحررها، طبعاً، مما شابها من صعود الأجهزة وتسلطها وقمعها… تطويير لا يكون ممكنا بدون سلطة القضاء الحرة المستقلة، وبدون اشراك الجميع في صنع القرار.