في الأعمال الابداعية، ايا كان نوعها يحتل المكان دورا أساسيا، بل الدور الأساسي حيث تقدم إيحاءاته ما لا يقدمه النص أيا يكن مكتوبا او منطوقا او مرسوما او منحوتا او مسموعا…الخ
من هنا يشدك التوقف عند ثلاثة ايحاءات مكانية في الاعمال التلفزيونية العربية لشهر رمضان المبارك. مسلسل فرقة ناجي عطا الله من بطولة عادل امام، عمر من اخراج حاتم علي والغالبون للمخرج رضوان شاهين الذي حل محل باسل الخطيب مخرج الجزء الاول، في العام الماضي.
بدءا بفرقة ناجي عطال الله، نتوقف عند المكان الاسرائيلي، المناطق المحتلة عام 1948، فبصرف النظر عن الحوار والكلام، تقدم لنا الكاميرا صورا جميلة مبهرة لشوارع ومحلات تل ابيب والمدن الاخرى التي بناها الاسرائيليون، مما يجعل المشاهد يشعر انه امام مدينة غربية حديثة ذات طابع اوروبي بالكامل، وربما يفوق الكثير من المدن الاوروبية. وفيها تدور الحياة طبيعية وهانئة، حتى حياة المصريين الذين جاءوها في مهمة ( مجموعة المسلسل ). والنتيجة : ان عين المشاهد العربي ستلتقط ثلاثة مشاعر فورية : الاول هو الانبهار بالعدو الاسرائيلي وما انجزه، الثاني هو التعود عليه فيما يسمى بعلم الاعلام بالالفة (familiarity)، وهي قاعدة علمية لكسر اي عداء، فيما يشكل احدى ترجمات ما سماه انور السادات ” كسر الحاجز النفسي “، الثالث هو الرغبة بالتماهي (Empathy)والتواصل وهي ايضا قاعدة في علم الاعلام، بنى عليها الاستراتيجيون الامريكيون نظرية كاملة واساسية في كيفية جعل الاعمال الدرامية الامريكية وسيلة لالحاق المجتمعات بالنموذج الامريكي، نفسيا اولا، ومن ثم فعليا، وبالتدريج.
لقد ذكرني هذا المسلسل، بفيلم سينمائي عرض في باريس قبل اربع سنوات، انتجه عرب ويهود في اسرائيل، وبتمويل وتسويق اسرائيلي. يقوم على قصة شابين تطوعا كاستشهاديين، وبعد ان نمر بصور مكئبة لمواقع تدريبهم واجتماعاتهم وصلواتهم، نصل الى التنفيذ، فيتوه احدهم في شوارع تل ابيب، التي يدخلها للمرة الاولى ( لانه قادم من غزة ) وبعد هذا التجوال الذي يستغرق ثلث الفيلم، يتحول الشاب كليا عن طريقة تفكيره السابقة، ويلتحق بالدعوة الى التعايش والسلام. اذكر الفيلم وتقنياته العالية ومستوى التشويق الكبير الذي نجح فيه. واذكر جيدا ردات فعل الفرنسين، بل والعرب المهاجرين عند خروجنا من الصالة. وكلها تؤكد ملاحظاتي اعلاه. بالامس كنت اتبادل مع الدكتورة سلام محادين هذه الرؤية والملاحظات، فحدثتني عن مسلسل بريطاني، اعتمد في تشكيل المكان على مواقع فلسطين الطبيعية والقروية، وحتى الاحياء القديمة الجميلة والعريقة، وقد كان لها ان ترصد ردّات الفعل عليه، حتى لدى الجمهور البريطاني. بحيث اتت ردّات الفعل هذه ادانة لاسرائيل وتعاطفا مع المكان الفلسطيني وبالتالي قضية ناسه.
المكان الثاني هو مكان مسلسل عمر، وقد تحدثت عنه امس،لكنني لا بد وان اعود اليه لانني ارى كل يوم اكثر، مدينة كلف انشاء استوديوهاتها مبالغ هوليوودية وربما اكثر ولكنها لا تشبه دمشق لا في واقعها الان، ولا في كتب التاريخ، واذكر عملا وثائقيا نفذته انا والدكتور وليد سيف( انا مشرفة تنفيذية وهو مشرف عام) عن مدينة دمشق، تناولها منذ تأسيسها وحتى الان، كشف فيه المكان الدمشقي عن جماليات طبيعية وحضارية وعراقة قد لا يضاهيها مكان مدينة اخرى، ولا عجب فتلك اقدم عاصمة في التاريخ. لكنها في هذا المسلسل مدينة هجينة، بشعة، اشبه ما تكون بمستعمرة رومانية كئيبة وبشعة، والاهم غريبة عن كل ما هو اصيل. وردة الفعل انك لا تتعاطف معها كمكان، ولا تحرك صورتها شيئا في اعماقك… وربما لا يكون عليك غدا إن رأيتها تقصف او تدمر ان تردد ما قاله شوقي : سلام من صبا بردى ارق ودمع لا يكفكف يا دمشق لان عين الكاميرا لم تدخلها : ” والربيع له ائتلاق ووجهك ضاحك القسمات طلق”، كما دخلها.
وغدا مع مكانين اخريين في عملين اخريين.