من راقب جلسة الجمعية التاسيسية المصرية لاقرار الدستور، ذهل بالسرعة والخفة التي تمت بها مناقشة امر تاريخي تاسيسي هو الذي يجعل من الدولة دولة بالمعنى القانوني وهو الذي يحدد حقوق الدولة والمواطن بكل ما للاولى من مؤسسات وما للثاني من حقوق وواجبات، فكيف بالاحرى عندما تكون الدولة المعنية هي مصر.
احد النواب امتلك الجراة في بداية الجلسة ليقول امام الجمعية بان الحاجة الى انقاذ الرئيس او الحاجة الى تمرير حل يجب الا يقودنا الى اقرار الدستور دون مناقشة وبهذه السرعة. لكن رئيس الجلسة رد عليه باستخفاف وتابع ايقاعه السريع. الاسلوب نفسه تبناه الغرياني في ادارة الجلسة كلها. فالاعضاء المحتجون من مدنيين ومسيحيين يتم استبدالهم باحد عشر عضوا احتياطيا من حزب العدالة والتنمية، قبل دقائق من انعقاد الجلسة، والرئيس يبدا بعبارة : الله مع الجماعة ويدير حوارا مازحا حول معنى الجماعة، وعندما يعترض ثلاثة نواب على احدى المواد يقول مازحا ولماذا الاعتراض، فليكن الله مع الجماعة ولنقل بالاجماع. كلمة الاجماع كان يردفها بسرعة ثانية بعد قراءة المادة وبنبرة توحي بانها تحصيل حاصل ولا حاجة للتمعن. اما عندما كان احد الاعضاء يحاول الاعتراض او المناقشة فان اسكاته كان يتم بسرعة فائقة وبخفة وبتعامل اشبه بالتعامل مع طلاب مدرسة من قبل مدرس ديكتاتور، ويمضي الامر. الملاحظة الثانية هي انه كان بارزا ان ثمة فارق بين النسخة التي كان يقرا منها كبير الاعضاء وبين النسخة التي كانت بيد رئيس الجلسة، وذلك بدليل التساؤول عن تلك الفوارق عدة مرات، بل وسقوط فقرة واردة في احد النصين من النص الاخر واضافتها بسرعة فائقة دون أي تدقيق، مما يؤشر بوضوح الى السرعة ( السلق ) التي حضر بها النص، بحيث لم يخضع للتدقيق حتى في الطباعة. كذلك تجلت الخفة في الخلط بين كلمة السياسية والاساسية وتصحيح ذلك بسرعة فائقة دون أي توقف وكذلك عندما اعترض احد الاعضاء على مصطلح المبادىء في العنوان، فاستبدله الرئيس بمصطلح اخر وراح يطبقه دون تدقيق على العناوين الاخرى. اما عندما اعترض الاستاذ محمد سليم العوا على وضع المادة المتعلقة بالازهر الشريف تحت عنوان المبادىء السياسية قائلا ان وضع الازهر ليس مبادىء وليس سياسية، تم الرد عليه باستخفاف ومررت المادة كما هي. غير ان الملاحظة البارزة الاخرى تجلت في خطاب الدعاية الانتخابية التي اعتمدها المستشار القانوني وهو يراس اهم هيئة تشريعية في تاريخ مصر الحديث، في تاريخ الثورة وفي تاريخ كل مواطن مصري دون استثناء بل وربما العربي، لان ما يحصل في مصر لا بد وان يترك تداعياته على سائر الدول العربية. اوليست مصر دائما دولة الاقتراح، كما يصفها نادر فرجاني محرر تقرير التنمية البشرية؟
كان المستشار يعلن عن كل مادة فيها شيء ما يتعلق بحقوق المواطن من مثل حقوق العمال او الحد الادنى للمعاشات بقوله : هذه هدية الدستور للريف، هذه هدية الدستور للعمل الخ… وكانه يتوجه الى هذه القطاعات ليحشد تصويتها الى جانب الدستور اذا ما عرض على الاستفتاء، والطريف ان احد النواب قد اشار الى ان هذه المواد واردة في دستور 71، فهي اذن ليست هدية الدستور، اضافة الى نقطة جوهرية هامة وهي انها لا يجوز ابدا استعمال كلمة هدية فالحقوق ليست هدية على الاطلاق، لان الهدية منحة، هبة، والحقوق هي حقوق يستحقها المواطن حقا مكتسبا، يستحقها المواطن لانه مواطن وحسب واذا كانت السلطات السابقة قد صادرتها فان ذلك سبب الثورة ولذلك يحصلها المواطن الان ثمنا اجباريا لثورته ونضالاته. لذا تكون اعادة هذه الحقوق الى اصحابها واقرارها نصا دستوريا،واجبا لا تكون الثورة ثورة الا به. وهنا يتبدى لنا بوضوح عنصر خطير في العقلية العربية من حيث علاقة السلطة بالمواطن، حيث تعتبر السلطة انها تمتلك الحقوق كلها، وتمنّن المواطن بما ” تهبه” له منها. وهنا يقع صلب مفهوم الثورة وصلب مفهوم الديمقراطية. فالديمقراطية هي ادراك السلطة، بان حقوق المواطن هي حقوق لا تعود ملكيتها الا للشعب وان السلطة قيمة عليها لا يحق لها تجاوزها، بل ان شرعيتها مرتبطة بمدى التزامها باحترام هذه الحقوق وقدرتها على تامينها وحمايتها. والديمقراطية هي ادراك المواطن نفسه لهذه الحقيقة وقدرته على التمسك بهذا الحق والمطالبة به ومحاسبة من يتجرا عليه، ومنح سلطته لمن يراه اقدر على حمايته وتطويره.
وبذا لا تكون الثورة ثورة الا اذا وعت تماما هذه الثقافة وعمممتها وطبقتها في كل سلوكياتها، والا فانها مجرد استبدال ديكتاتورية بديكتاوتورية اخرى، قد لا تتبدى عيوبها في البداية، لان ذلك امر طبيعي في تاريخ السلطات، حيث تبدا العيوب الظهور مع التمكن وطول امد السلطة وقدرتها على اقصاء الاخرين.
بذا يكون البرادعي على حق بقوله ان جلسة اقرار الدستور كانت مسرحية، وكان صباحي على حق بقوله ان الشعب لن يسمح بقيام ديكتاتوية مكان اخرى وكان الثوار على حق باطلاقهم اسم جمعة حلم الشهيد على اعتصامهم في ميدان التحرير. ويكون المستشار الكبير قد قدم عد رئيسه دليلا على ان ثورتهم لم تكن الا استبدال مجموعة بمجموعة اخرى، لا تكفي صناديق الاقتراع لجعلها حالة ديمقراطية.
من المازق الذي وضع نفسه به بين عدم القدرة على تطبيق الاعلان الدستوري وعدم القدرة على التراجع عنه