لم يكن احد يسمع بها، تلك القرى التي لم تعرف منذ سايكس بيكو ما اذا كانت لبنانية ام سورية.
مشرط التقسيم اعطى الارض للكيان الذي اختصر به اسم سوريا التاريخية، ولكنه ابقى على السكان حاملين لبطاقة لبنان توسعوا باسمه ليعني، لا الجبل الابيض فحسب، وانما مساحة اخرى رتبت وفق مصالح الاستعمار الجديد انذاك، مساحة فرضت دولة لا يضيرها ان طرابلسها، عاصمتها الثانية تحمل اسم طرابلس الشام.
على الورق، وفي المنظمات والمؤسسات الديبلوماسية، اقليمية ودولية يسهل التقسيم لانه يتعلق بالاقلام والالوان، اما على الارض فالامر مختلف لانه يتعلق بدورة الحياة.
” وصيت مع راعي حماة
يشفلي الطقس شمال،
قللي السني جايي هوا بيوقّع الخيال”
يكتب طلال حيدر وتغني فيروز.. والسياسيون ينشغلون بترسيم الحدود، وشيخ حمادي يسالني : اية حدود؟ انزل في العاصي واعود ببضاعة اشتريها بالليرة السورية و ابيعها في دكانتي الصغيرة بالليرة اللبنانية او بالدولار… والحمد لله، نعمة !
لكن لبنان الرسمي، لا يجد امامه الا ان يناى بنفسه، رغم استحالة هذا الناي. ويبقى الامران : الحاجة الى التركيز على الناي، والتمرد على الناي، دليلان حاسمان على وحدة الارض والناس، وحدة يخاف البعض ارتدادات فوضاها فيناى ويتورط البعض في وضعه الطبيعي كجزء من طرفيها ( معارضة او موالاة ) فلا يناى.
الا ان تلك القرى تظل الشاهد الابلغ : يحملون جوازا لبنانيا ولكنهم لا يسجلون اولادهم الا في المدارس والجامعات السورية، لانها ارخص كلفة واحسن… والجهات التربوية تعاملهم كسوريين في كل ما يتعلق بمجانية التعليم وما يستتبعها. ولذا كان الطلاب اكثر من عانى من الانقطاع عن سوريا، لانهم اضطروا الى الانتقال من منهاج الى اخر، ومن تكاليف الى اخرى لا قدرة لهم عليها.
ارضهم سورية في دوائر الطابو، وعليها يزرعون ويربون المواشي، ويبيعون كل انتاجهم في المدن السورية خاصة حمص عبر القصير. الان عزلوا عن اسواقهم، فارتدوا الى زحلة والهرمل، لكنهم يجدون صعوبة في تصريف غلالهم. لكنهم ما يزالون يتلقون الغاز والمازوت بالسعر المدعوم من الدولة السورية.
مستشفى لم يكن لديهم لانهم يعالجون مجانا في مستشفيات سوريا، والان رتبت لهم الهيئة الاسلامية للاغاثة مستشفى متنقلا، لا يعرف اطباؤه ان يميزوا بين سنة وشيعة. كذلك لا يعرف الاهالي الذي نظموا بدورهم نوبات حراسة دورية لقراهم، التمييز بين سني وشيعي، وحتى بين امراة ورجل. فهؤلاء نساء العشائر، مدربات كما الرجال ( وكدعات ) كما الرجال، وتعتبر الواحدة منهن دورها في الحراسة حماية لاولادها الذين تعود صباحا لترسلهم الى المدرسة.
هذه القرى، قرى الجرد كما يسمي اللبنانيون المناطق العالية فوق الجبال، هي لا سورية ولا لبنانية، هي الاثنتين، ولذلك هي الشاهد الابلغ على ان مشارط المستعمرين المتامرين، مهما برعت، قد نسيت غرزات ما دون رتق، تركت قطعة صغيرة من الجسد تناقض فيها الجرح الجغرافي مع الجرح البشري… هي الشاهد الابلغ على استحالة محو الذاكرة وفرض واقع مفتعل مكان واقع الحياة.