قضى وهو يمسك بالمطرقة، رغم كل مرض الجسد. مطرقة البناء التي أسست ثم ظلت تدق أوتاد خيمة الوطن عبر عقود كانت الرياح والعواصف تولول خلالها سعيا لاقتلاعها. مطرقة التركيز على الأخلاقيات والمثل خلال عقود كانت فيها آلاف المعاول تعمل على تهديم بنيانها. مطرقة الدق على رؤوس المتاجرين والمأجورين ودلاّلي: على أونا.. على دو.. فوق رأس البلاد في سوق الجواري.
ذهب أبو إبراهيم وهو يسجل احتجاجا كل ساعة مقابل تأكيد كل دقيقة. لكأن احتجاجه الأخير والأكبر كان على مطالبة سلام فياض – عبر واشنطن بوست – بإدخال سورية تحت الفصل السابع، مطالبة تبدو ثمنا للقاء رئيس الوزراء الفلسطيني المتحفز لخلافة أبو مازن، مع رومني المتعهد بدعم بلا حدود لكل ما تقرره إسرائيل وباعتماد القدس عاصمة للدولة اليهودية. ولكأن تأكيده الأخير هو استمرار عنيد مبدئي لتأكيد عنى حياته، فلسطين، والعروبة واليسار، التزامان وسما حياته وشكلا مضمون سلوكه وأخلاقياته ضمن خط يساري واضح وراديكالي لم يهادن فيه يوما.
وها هو يختار ذهابه في لحظة حرجة، ليجعلنا نذكر أنه، ومنذ السبعينيات، كان ينبه إلى ما سيحصل لفلسطين نتيجة أخطاء بعض القيادات وانتهاجها لسلوك معين، كما كان ينبه إلى ما يحصل للأمة إذا ما استمرت السياسات العامة في سلوك الطريق ذاته. دفع ثمن هذا التنبيه كثيرا، لكنه ظل يضغط بعناد، على جرس الإنذار، ويضغط بعناد حثيث أيضا على عملية البناء الفكري والثقافي والنضالي والأخلاقي، فترك لنا ارثا غنيا.
تحمل ناجي علّوش الكثير، ولكن هل كان بإمكان قلبه أن يتحمل رؤية بعض فلسطين ينضم إلى حلقة الرقص على سيادة سورية وكرامتها، ويشبك يده، في تلك الحلقة، بيد إسرائيل وأمريكا والغرب ودول الاعتدال العربي. هؤلاء الذين أوغلوا منذ قرن في دم وكرامة ووجود فلسطين يكملون اليوم ما فعلوه في سان ريمو وسايكس- بيكو وحروب الستين سنة، ليس في حق فلسطين فحسب، بل والأمة كلها. وتقف القيادات الفلسطينية الرسمية لتتوزع بين من ينضم اليهم، من يتورط في التآمر مع الجماعات التي تدمر البلاد بأموال وتحريض الخارج، ومن يدير ظهره لواجب الوفاء للدعم يوم شارك الجميع في الحصار. أهي العقلية الثأرية، وممن؟ من مستقبل القضية الفلسطينية قبل أي شيء آخر. أهي أخلاقيات عدم الوفاء؟ وإزاء من؟ إزاء مستقبل الأمة كله. أهي عقلية استرضاء السلطان لضمان فرمان الإقطاع وكيس من فضة؟ وعلى ماذا؟ على رقعة من جلد النمر؟
كان ناجي فوق الأحقاد الصغيرة، فوق العمالة، فوق تقديم أوراق الاعتماد لأي كان، وفوق حرامية علي بابا الذين يأكل واحدهم الآخر. كان فوقهم لأنه كان تحت سقف الوطن انتماء، على أرضه التصاقا، تحتها نضالا، عند الحاجة، وفي صف وحدة ثورية قومية وأخلاقية. وحدة قامت على ادراك أن القومية حس فطري طبيعي، لكن وعيها ووعي سبل تحقيق مصالحها هو جهد فكري وبنية معرفية وتنوير ثقافي يبقى من دون فائدة أن لم يقترن بالجهد النضالي المضحي من دون كلل، غير أن كل ذلك يكون هباء إن لم تحكمه منظومة أخلاقية متكاملة. كان أبو ابراهيم كل ذلك، ولم يكن وحيدا، لكن أيام الانحطاط والسوء جعلت الغلبة للآخرين، لمن يجسدون ما هو عكس ذلك، لانها أيام الرويبضة وأيام انقلاب المعايير ووقاحة الخيانة وفضيحة التآمر التي لا ترى في عريها إلا ما تراه بعض فتيات الفيديو كليب. وهل ما يجري في السياسة الرسمية إلا فيديو كليب آخر، بأبطال آخرين… كلهم يكشف عريه، وكلهم يعرض نفسه للبيع، والمشتري ذاته وللهدف ذاته: تدمير روح الأمة؟
غير أن روح الأمة لا تدمر الاّ لوقت، حظنا السيئ أننا نعيشه. ويبقى ذخر المناضلين الكبار الثابتين، كناجي علّوش، الذي نقل اباء روحه إلى ابنه صديقنا الدكتور ابراهيم، والى مئات ممن تأثروا به، شعلة أمل لا تنطفىء لأجيال قادمة.