لاول مرة نستقبل النهار بدون غسان تويني. رحل الرجل الكبير لتتلحف الصحافة بمنديل اسود ينسدل حتى الارض تجره خلفها كما تجر خيبة عدم وجود بدائل للكبار الذين يرحلون. فمن اين لها بغسّان تويني اخر؟! عملاق لم يكن من الضروري ان تتفق معه لتحترمه ولم يكن من الضروري ان يتفق معك ليشجعك ويقدر موهبتك او جهدك، كان المعيار المهني يرقى عنده على كل شيء، وكان المعيار الوطني ثابت متغير في خليط عجيب يجعل منه السوري القومي الاجتماعي الذي يرى فجاة لبننة الحزب، فيطرد منه، لكن حين يستشهد انطون سعادة يكون غسان الصحافي الوحيد الذي يتجرا على كتابة مقال ملتهب عنه، فيزج به في السجن وهناك يقسم يمين الانتماء من جديد. كان اللبناني الذي يريد للبنان ان يكون فوق الجميع، لكنه من جهة اخر العربي الذي لم يفتا يفتخر بنسبه الى الغساسنة، بل والى قبيلته.
في التطبيق فتح النهار لكل العرب، خاصة اولئك الهاربين من قمع انظمتهم، وفتحها لكل التيارات السياسية اللبنانية لتكون مدرسة عليا للصحافة وللفكر وللثقافة – افخر شخصيا بانني بدات اولى خطواتي فيها – في الثقافي وانا بعد طالبة، ثم مراسلة لها في عمان حتى ال82. وعندما التقيته لاول مرة بعد سنوات طويلة مع المرحوم محمود الشريف، قال له الاخير : لقد اخذناها منكم، فرد على الفور بابتسامته المشهورة : اسالها اين تعلمت الصحافة؟
قبل سنتين ذهبت اليه في مكتبه لترتيب مشاركته في اللجنة العليا لمؤتمر علمي في جامعة السوربون.استقبلني بفرح الاستاذ الفخور. لكنه طلب الي ان اترك الاوراق التي حملتها لدى السكرتيرة مع موافقته المسبقة، وغرق في استرجاع طويل للذكريات : بدءا من ابيه، السفير – الشهيد وصولا الى انطون سعادة – الشهيد، الى الزوجة التي قضت شابة دون ان يقضي معها الحب الكبير الذي يجعله يتحدث عنها بصيغة الاحياء، الى الاولاد الين قضوا واحدا واحدا : الاولى في الطفولة، الثاني في عز الشباب والثالث جبران شهيد جنون السيارات المفخخة.
كان جبران تويني الاب قد عين سفيرا لدى تشيلي، وكان غسان طالبا في نيويورك يعمل في بعثة لبنان في الامم المتحدة. العام 48 والصراع محتدم في مجلس الامن حول الاعتراف باسرائيل : كنا نشعر ان الامر قد يتوقف على صوت واحد، وكان صوت تشيلي متارجحا. الاطباء نصحوا جبران بالا يذهب لان قلبه لا يحتمل، لكنه اصر وقال : ان قلب الامة ايضا لا يحتمل التاجيل. وصل، قدم ارواق اعتماده، وسقط على الارض… والغريب انه عندما اراد غسان الشاب ان يذهب لمرافقة جثمان والده، لم يقبل رئيس البعثة اللبنانية ان يصرف له تذكرة، غير ان السفير السوري ( البارودي) سارع الى ذلك وارسل سيارة توصله الى المطار.
انطون سعادة، وعلاقة اشكالية، لا تمنعه من ان يختار على مكتبه، صورته وهو في سجن الرمل بعد ان كتب مقالا في رثائه. – لم يخرّج حزبا عربيا عددا من المبدعين كما خرّج هذا الحزب، حتى ولو انفصلوا عنه، لذلك اصدرت قبل سنوات ملحقا للنهار حول هؤلاء بعنوان : خريجون.
نايلة، الفتاة الشاعرة الدرزية التي احب، وتزوجها زواجا مدنيا في باريس، ليعودا الى بيروت في تحد جميل للحواجز الطائفية التي تقطع لبنان. صورتها ما تزال على مكتبه، في اطار ذي وجهين : من جهة وجهها في عز بهائه واناقته ومن جهة وراسها ملفوف بمنديل يخفي انتقام المرض الخبيث من الشعر.
اولاده الذين ذهبوا واحدا واحدا، وفي حوادث : قلت لجابي ( اسم التحبب لجبران ) لا تذهب الى بيروت، فقد لا تعود. لم يرد ولم يعد. انا لا اتهم احدا لكنني اعرف المخطط التخريبي الذي كان مرسوما للبنان وللمنطقة.
كنت انظر الى الشيخ الخارج من ماساة اغريقية لا شبيه لعنفها، واعجب من ان الابتسامة لم تفارق وجهه حتى حين كانت تمتزج بالدمعة، مرارا استاذنته ان اذهب كي لا اتعبه، لكنه كان يستبقيني، يريد ان يتحدث… انت ابنتنا مهما كبرت.
في اخر مرة التقيته في ابو ظبي، كان معه صحفيتان شابتان من النهار، كان يعاملهما بالابوة ذاتها. ويوصيهما : تعلموا الجراة التي لا تتجرا على المهنية.
” الصحافي ليس رواية وليس مجرد شاهد، ليس ناقلا فحسب وليس مجرد الة تصوير، انه العين والعقل والوجدان معا “، كتب طلال سلمان في رثائه، وقد كان ذلك بحق.