صورة الغد

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 18-07-2012

هل من يقول ان الجامعات ليست صورة الغد القريب وان المدارس هي صورة الغد الابعد قليلا ؟  ولكن هل من ينكر ان كلاهما نتاج للماضي القريب وللحاضر ؟ وان الشباب والاولاد الذين ينتمون اليهما لم ينزلوا الينا من سطح القمر وانما جاؤوا من بيوتنا ومجتمعنا؟

اعمى من يقول ان صورة جيل الشباب في المؤسسات التعليمية صحية ولا تهدد بمستقبل مرعب، ولكن ذلك يحيل الى سائر الشباب الذين خارج الجامعات، ولا شك انهم في وضع اسوا.

مفارقة انني عشت في الجامعات ثلاث مرات، طالبة واستاذة، وتلقائيا تقفز الى راسي المقارنة بين المراحل.

كنا في السبعينات في كلية الحقوق اللبنانية التي كانت تعتبر معقل الحركة السياسية اللبنانية، لم تكن هناك جهة غير ممثلة فيها، وكان الصراع السياسي فكريا بالدرجة الاولى، وفي العمق، وبذلك يبلغ درجة من كبيرة من الحدة تعود الى طبيعة تلك المرحلة. لكن احدنا لا يذكر ان ذلك اتجه مرة واحدة الى العنف، حتى ولو بشتيمة او بضربة كف. كانت هناك قدسية قانونية لشيء اسمه الحرم الجامعي، تطوقه القوى الامنية دون ان تتجرا على عبور بابه، وبالمقابل يتحرك الطلاب ضمنه دون ان يتجرا احدهم اخلاقيا على المساس بمعناه وحضاريته، حتى اذا حصل وفي حالات نادرة اصبح الامر موضوع تندر واستهجان. كان الحراك الطلابي قادرا على التدخل في تشكيل حكومة او في اسقاط حكومة، في اتفاقية القاهرة وفي موضوع انتشار الجيش في الجنوب.  وكم اعتصمنا لياتينا وزير معين فجاءنا وحاورنا بندية واحترام، وكل ذلك تحت سقف امن البلد. كان العقل هو الذي يحكم.

متى تغير الحال؟

عندما بدا الشحن  الطائفي، والشحن الاقليمي اللبناني مقابل الفلسطيني – القوى الوطنية اليسارية والقومية. اقول الشحن ولا اقول التباين في المواقف، فذاك قائم منذ البداية. عندما بدات الاصابع الخفية تخطط لتفجير البلد. واصبح الجسم الطلابي جزءا من عملية الشحن هذه، بل ووقودها، ومن ثم وقود الحرب الاهلية. خاصة وان الشحن هذا ترافق بتراخي الدولة تدريجيا ثم غيابها  كحكم وضابط ونازع للصواعق، وتحولها مرة  الى طرف  ومرة  الى صورة شكلية.

في نهاية الثمانينات عدت الى الجامعات الاردنية مدرسة، وكانت الصورة اخرى، الخصها باحدى المرات التي دخلت فيها الصف يوم انتخابات مجلس الطلبة، فاذا بالحضور مكتملا، وعندما سالتهم : هل اقترعتم وعدتم، اجابني احدهم : لن نقترع. ما الفائدة ؟ طالما ان مجلسا ننتخبه قد يحل في اية لحظة يتخذ فيها قرارا لا يرضي الادراة او من فوقها. كان هذا الياس من مساحة الفعل والحرية مترافقا مع الياس من انسداد افاق العمل، ولدى القلة الذين يحملون من بيوتهم اهتماما بالشان العام، ياسا من مستقبل القضايا القومية، بلغ اوجه مع حرب العراق.

في 2003 عدت الى الجامعة – في فرنسا هذه المرة – واذكر ان استاذا كبيرا من السوربون قال لي ونحن نخرج من احدى الحلقات العلمية:  كم اخاف على مستقبل فرنسا ؟ لقد فقد هؤلاء الطلاب الرغبة في النقاش الفكري، فقدوا العقل النقدي الذي صنع النهضة الاوروبية. وعندما تناقشنا في السبب اجابني : هو السوق. اقتصاد السوق لن يدمر الاقتصاد فقط بل يدمر منظومة قيم ستقضي على حضارية المجتمعات، اننا في طريقنا الى ازمة على المستويين. خاصة وانه في مواجهة مع الدولة : فتدمير او اضعاف الدولة شرط من شروط السوق… وعندها تنفلت الضوابط وكل شيء.

نلخص فنقول : ان شبابنا يعيشون كل ما ذكرت : اولا غياب البناء الفكري السياسي كاساس للاختلاف، مما يضمن مستوى مدنيا راقيا لهذا الاختلاف. غياب قوة الدولة كناظم وكضابط. مساوىء اقتصاد السوق الذي فرض على مجتمع  غير منتج فحطم القيم وسد الافاق وزرع النفوس بالغام علامات الاستفهام حول المستقبل. غياب الحريات الحقيقية واستبدالها بحريات وهمية ظاهرية ان هي الا الفوضى. واخيرا الشحن، الشحن بكل اشكاله، من اقليمية ودينية ومذهبية وعنصرية قبلية وطبقية، شحن يوحي لكل فرد او مجموعة بان له الحق في ان ينوب عن الدولة في حماية نفسه وجماعته ( وليس البلد ) والا فان الاخر سياكله. وتاتي اوهام ما يسمى بالربيع العربي لتعزز هذا الهوس الانتقامي المنفلت، الذي لا يجوز لاحد تجاهل مخاطره، بدءا من الدولة التي لا يعيب عليها احد تدخلها لفرض السلم الداخلي، ولا تعيب على نفسها الاقدام على الاصلاح لنزع الصواعق. وانتقالا الى الافراد : فهل يقف اي منا دقيقة امام ضميره ويسال : ماذا يسمع هؤلاء الناشئة او الشباب في بيوتهم قبل ان يذهبوا الى المدرسة او الجامعة ؟ انحقنهم بالاحقاد ونشحذ فيهم الغرائز  وننتظر منهم ان يورقوا ورودا؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون