هو الانسان، كل منا يختزن في ذاته الفردية تاريخ الذات العامة التي ينتمي اليها، هذا ما يقوله العلم. ولذا فان قطع جذور ذاكرته التاريخية يجعل منه مخلوقا تائها، حتى لو لم يدرك، وبذا يسهل تغيير طبيعة المجتمع، خاصة على مستوى الثقافة ومنظومة القيم.
اما في الاقتصاد فان بلدوزر العولمة تقتضي جرف كلما هو خصوصية شعوب، كل ما هو عائق، كل ما هو ذاكرة، لتسهيل اجتياح سادة العالم الجدد، الشركات المتعددة الجنسيات، وفروعها الاقليمية والمحلية تحت ستار اعادة الاعمار، خاصة وان هؤلاء السادة يعيشون رغم كل سيادتهم عقدة الذاكرة والجذور، شان كل حديثي النعمة. يضاف الى ذلك، حاجة المشروع الصهيوني الى اقتلاع الذاكرة، محوها، عن الارض ومن رؤوس الاجيال، ليسهل ايضا احلال ذاكرة واحدة هي الذاكرة اليهودية – حقيقية او ملفقة – مكانها.
في الحرب اللبنانية دارت اشرس المعارك في الاسواق التجارية اللبنانية، قلب بيروت، وقام الطرفان بتدميرها تماما، وعندما توقفت الحرب، كان المشتري جاهزا وب ” تراب المصاري ” لتراب الارض. بل وبقسر السلطة الجديدة، وكل من رفض البيع واجه كل انواع الاضطهاد والضغط، اقلها حجب رخصة الترميم. حتى اذا استقر الملك تحول القلب النابض الى جلد دب ممدد. القلب الذي كان يضم كل عوائل بيروت وتجارها، واغلب تجار لبنان واحيانا سوريا، كل له امتاره ومتجره ونداؤه المتميز في سوقه الذي يتميز عن السوق الاخر المتداخل او الموازي، بالشكل الذي يخلق الحياة الشعبية واللحمة الاجتماعية، – تحولت الاسواق الى سوق عولمي مفتعل بارد، جثة لا روح فيها ولا لبنان فيها ولا عوائل فيها ولا لحمة فيها. تحول الى شيء ليس بيروت وليس اية عاصمة محددة، وانما الى سوق هو هو في كل عاصمة وفي كل مكان، ولا يجمع العاملين فيه شيء الا غربة انسانية قاتلة والة حاسبة لا تحفظ اسم الانسان ولا كنيته وانما فقط رقم المبيع ورقم الرواتب. دفنت بيروت تحت سوليدير… والانكى ان اثار بيروت الالفية، ما كان مكتشفا منها وما كشفته الحفريات، دفن ايضا الى غير رجعة، ارتفع الهجين المقرف وارتفع معه سلم قيم مقرف يحكم الحركة والحياة في هذه المنطقة، ويجعل من تبقى من اللبنانيين الذين عرفوا بيروت يحجمون عن المرور بها.
في بغداد كانت حرب الذاكرة هي الاشرس، لان الذاكرة هناك هي الاشرس، ولا تتسع مجلدات لما اصابها من دمار. امتد الاقتلاع من اور التي لم ينفعها ادراجها على قائمة التراث الانساني ( وما يهم ذلك دولا ليس لديها ما يدرج في التراث الانساني؟) الى كل حجر وطين ومخطوطة والى كل مبنى يحمل طبقات من الحياة الشعبية التي تعني قصة الانسانية منذ صرختها الاولى. ونسمع الان عن جرافات تعدم شارع ابو نؤاس… وليبكه كل عربي من الجيل الذي كانت له علاقة بالذاكرة وبالحياة وبالثقافة.
بالامس كانت شاشات التلفاز تحرقنا بلهيب النار يصيب اسواق حلب القديمة المسقوفة، اقدم اسواق في المنطقة، واطول اسواق مسقوفة في العالم بعد سوق اسطمبول. كلها متداخلة كما شرايين واوردة الجسد، ولكل منها تخصصه ورائحته، وكل تاجر فيها يعرف كل الاخرين ويعرفونه. تحيط بها مجموعة الخانات التي شكل منها تاريخ حلب مع التجارة الاجنبية وحمل اسم المنتج الذي يتخصص به. كنز من جمال، من حياة ومن ثروات… توكل الى النار. لماذا؟ لنتحول الى ” مول ” يحمل اسما لا يؤشر الا الى مدينة غريبة او الى كلمة باتت هي هي في كل مكان، او الى تراست عالمي يشكل شبكة عالمية يحكمها راس المال اليهودي، ويخصص جزءا من ارباحها للمستوطنات في فلسطين، بعد جرافات الهدم التي لا تختلف عن جرافات الهدم في بقية سوريا الطبيعية التاريخية.
انه جوهر المعركة التي تريد قطع جذورنا وتحويلنا الى مخلوقات نمطية بلهاء، لا تعرف الا ان تستهلك وان تسوق ثقافة الاستهلاك. وللاخرين ان ينتجوا لنا كل شيء بما فيه الذاكرة الجديدة.