جلال

صحيفة العرب اليوم، 24-05-2012

تلك الغرفة على يمين المدخل في جريدة الدستور، جمعتنا لسنوات: جلال الرفاعي، عيسى الشعيبي وانا، قبل ان ينضم الينا خيري منصور. كانت في الاساس لهما، وجئنا انا ثم خيري فاستقبلانا لضيق المكاتب. في الغرفة الملاصقة كان الملحق الثقافي بادارة نبيل الشريف ولجنة رباعية: يوسف عبد العزيز، طاهر رياض، الياس فركوح و

كبر المكان، واصبح لكل مكتبه: خيري بعد ان حل محل نبيل الشريف في الملحق ( حيث اصبح الدكتور رئيسا للتحرير) جلال وعيسى اللذين صعدا الى الطابق الاعلى، وانا التي تتداول المكتب، صباحا مساء مع رشيد ابو غيدا.

ظلت العلاقة خاصة، شيء عميق من المودة، من الاحترام، من الحميمية التي تصل الى عمق عمق التداول بالخاص كما بالعام…زمالة تصل حد الاخوة، حتى حين تختلف الاراء.

وكان جلال، الاقل كلاما، الاكثر ملاحظة، الارقى تعاملا… العين التي تنفذ الى عمق الاشياء والصوت الذي قلّما يعلق وان فعل فبجملة سريعة مصحوبة بابتسامة جانبية خفيفة وخفية…

تركيبة رسام كاريكاتور بالفطرة… فطرة صقلت وتبلورت بالتعلم، بالعلم، بالموقف، بالاطلالة الاسعة على العالم عبر علاقات عربية واجنبية غنية وذات مستوى  باكبر رسامي الكاريكاتور. لا اتذكره الا منكبا بحرارة وهاجس على اوراقه، يراقب نفسه وهو يرسم، ينحني ليحتضن ثم يبتعد ليراقب ويقيّم. لا يصل ابدا الى ذلك الاهمال الخطير الذي تغري به الشهرة والتمكن وعرش الريادة. كان رائدا بلا منازع، الكل يشهد له، لكنه يفرح بكل مبدع جديد ويرعاه، يقيّمه ليدفعه الى الامام لا ليتعالى او يكسّر كما يفعل الكثيرون ممن يخافون منافسة المواهب الصاعدة.

كثيرا ما كانت تزعجه ثرثرتنا، نحن المعتادون على الكلام كلما توقفنا عن الكتابة، هو الذي لم يكن يتوقف عن المحاولة والاعادة طالما هو على مكتبه. لم يكن يحب الضجيج ولا الاسترسال ولذلك رحل بلحظة دون ضجيج ودون نزع.

كان وفيا بلا مظاهر، ورغم انه لم يقابل بالوفاء ذاته ظل على ما هو عليه.

في بيته، في بيت عزائه بالامس، كنت اهرب من ثرثرة النسوة، الى وجه زوجته الهادئة الصامتة التي طالما احب، الى اللوحتين اللتين تتصدران الجدار: بورتريه جميل لامراة فلسطينية بالثوب التقليدي، وكاريكاتور من ذلك النوع المزدحم بالشخصيات الذي كان يبرع فيه جلال. تخيلته للحظة يراقب القاعة ويرسمها بذات الروح. لماذا تغيرت تقاليد بيوت العزاء فقد اعتدنا ان نجد مكافحة لقابلية النساء للثرثرة، اما بصمت يحترم جلال الموت وروح الفقيد، واما بتلاوات قرانية تسمو بالروح الى عوالم الاحترام نفسه. فاذا بنا نجدنا امام ثرثة تقطعها سيدة تتنطح لالقاء مواعظ دينية فيها الكثير من الاجتهاد الذي لا ادري من الذي سمح لها بان تفتي به، ومن ثم تاتي اخرى تقدم نفسها على انها واعظة، واذا اتحفظ على ما يحق لي التدخل فيه من امور الدين، فانني اسجل انه من الجميل ان يدخل الخطاب الديني بيوت الناس، وتجمعاتهم لنشر قيم العدالة والرحمة والحق والرحمة، مفاهيم التسامح والعطاء وغيرها من قيم الاسلام العظيم، ان يستغل وفاة شخص كجلال الرفاعي ليعلي قيمة العمل الجميل الذي قام به في حياته، والعائلة الصالحة التي بناها. لكنني لا افهم لماذا تقتصر المناسبة على حسابات رقمية تحول العبادة الى منفعة، كما تكرس تعصبا فوقيا تمييزا لم اعرفه لا في الاسلام ولا في المسيحية، وانما لدى منطق شعب الله المختار. وتتحول فيه السيدة الى سلطة تنطلق في تحديد ما يجوز وما لا يجوز من تفاصيل صغيرة صغيرة ( من مثل جواز تقديم الطعام او لا ). كما انني لا ادري من اين جاءت بمعلومة تقول ان المسيحيين لا يقيمون بيوت عزاء بل يدفنون ميتهم ويذهبون كل الى سبيله. ثم عادت لتقول في مكان اخر ان تقليد التاسع والاربعين والذكرى السنوية هو تقليد الكفار وبدعة يجب التخلص منها.

تمتعت السيدة باسلوب من السرد اللطيف القادر على اجتذاب النساء، خاصة وانها روت لهم قصص كل افراد عائلتها باسلوب مشحون بالابتسام، وبعبارت انكليزية من مثل  ( اوكي )وغيرها، من حين لاخر. تعتذر عنها بان كل افراد اسرتها يدرسون الانكليزية، وانها كانت تعيش في السعودية، وان تعلم لغة الغير وسيلة لاتقاء غدره !!

رحمك الله ورحم ريشتك يا جلال !

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون