التاريخ هو كل شيء الا ثابت، غير ان الجغرافيا هي كذلك. ولذلك لا يمكن قراءة السياسة الا عبر الجيوسياسة، ولان الجغرافيا هي ايضا الاقتصاد، بمعنى انها الثروات التي تحدد مصالح الدول وبالتالي علاقاتها، فلا يمكن قراءة السياسة الا عبر الاقتصاد.
خط يمتد من ايران الى بيروت عبر بغداد ودمشق، هو واحد من الخيارات الجيوسياسية، ولكنه ايضا واحد من الخيارات الاقتصادية خاصة فيما يتعلق بالطاقة، واحدث قوى الطاقة هو الغاز.
صحيفة مانيفستو الايطالية تكشف النقاب عن اتفاق وقع عام 2011 بين كل من ايران والعراق وسوريا، حول مد خط انابيب للنفط والغاز يربط حقل جنوب فارس، الحقل الاكبر في العالم – بحسب المحرر الاقتصادي للصحيفة المذكورة – بالبحر المتوسط، في نهاية عام 2016. وقد جاء هذا العقد متزامنا مع اكتشاف حقل ضخم قرب حمص( ما يفسر تركيز الصراع على حمص)، اضافة الى حصة الشواطىء السورية من غاز المتوسط، مما كان سيجعل سوريا في نهاية العام المذكور واحدة من اغنى ساحات تصدير النفط والغاز. غنى تعرف القوى الدولية والاقليمية المتامرة على هذه الامة منذ قرون، بان وجوده بايد سورية هو غير وجوده بايد اخرى. فالحرير في يد التاجر الدمشقي او الحلبي، والامكانات بيد المزارع السوري هي غيرها في يد القحط الاخر، والتمكن الاقتصادي في يد السياسي السوري يؤدي الى ما لا يمكن ان تؤدي اليه ثروات لا سيد لها الا الشركات الاجنبية.
واذا ما اضيفت القدرة الروسية الى هذا التحالف الضخم في مجال الطاقة، امكن تخيل ما كان يمكن ان تشكله من بديل مواز للساحات النفطية التي تسيطر عليها الشركات الاميركية والغربية. بديل لا يعني ابدا ان هذا الخط ( الشرقي مرة اخرى ) سيلغي قوة الشركات الاميركية التي تهيمن على طاقات عدد من المواقع النفطية والغازية الاخرى في العالم وفي مقدمتها الخليج العربي، ولكنه سيقيم خطا موازيا، منافسا لها وربما تفوق عليها. واقع اقتصادي، تعني ترجمته سياسيا نهاية الهيمنة الاميركية، مما سيستتبع حكما نهاية هيمنة القوى الثانوية التابعة لها، والموجودة بضمانة قوتها.
وبذا نفهم ما تقوله صحيفة ديلي ستار من ان وكالتي ساس واس بي اس البريطانيتين نشرتا مئتي خبير من القوات الخاصة البريطانية على امتداد مناطق الصراع وان الاجهزة السرية الفرنسية نشرت بدورها مئات الخبراء خاصة في مجال الاتصالات. وتضيف ما نيفستو الايطالية ان وكالة الاستخبارات الاميركية التي تخوض الحرب السورية على كل الجبهات ومنها انشاء قاعدة جديدة في تركيا على جبل كاسيوس، بمهمات تجسسية، تضاف الى قاعدة انجرليك الجوية وقاعدة كيزسيك. كما اقامت في اسطمبول مركزا لدعاية الحرب يقوم فيه مختصون على تدريب سوريين ومرتزقة على انجاز الفيديوهات التي تبثها الفضائيات. اما الغارديان فتكشف عن مركز تدريب عسكري للسي أي ايه في هاتاي، وعن وجود القيادة الرئيسية على متن سفن الاطلسي في خليج اسكندرون.
بذا ايضا نفهم لماذا انصبت جميع الجهود منذ بدء الحراك على منع التغيير السلمي، على تحويل الصراع السياسي الى صراع مسلح، على حفر اخدود الاحقاد المذهبية والطائفية، لان المطلوب ليس النظام بحد ذاته وكفى وانما المطلوب الا تصل كل تلك القوة الاقتصادية القادمة، الى اية حكومة سورية قادرة ووطنية، والى مجتمع سوري متماسك وشعب مؤمن بحقوقه… بل والاكثر من ذلك، فان التغيير الاصلاحي الحقيقي يصبح والحال هذه، الخطر الاكبر على كل هؤلاء الاعداء والخصوم.
هو اذن صراع بحجم العالم، بحجم القوى العظمى في هذا العالم، وليس بحجم الذين يتقاتلون على الارض، بالقنابل المتفجرة او بالار بي جي. غير ان هؤلاء هم بدون شك اداة هذا الصراع الكوني الذي سينتهي الى مآل يتشكل من علاقة ما بين هذه المصالح الكبرى.
علاقة لن تكون بالضرورة نتاج سحق طرف للطرف الاخر، لان ذلك ما يبدو صعبا، وربما مستحيلا، الا اذا حصل تدخل عسكري خارجي من قبل حلف شمالي الاطلسي براس حربة تركية. او اذا تم التوصل الى تفاهم ما بين الكبار، قد لا ياخذ الصغار في حسابه، ولكنه سياخذهم بلا شك في سياقه وفي طريقه.