لا مجال للناي بالنفس، لان القصة هناك بدات. فعندما اندلعت النار عام 1975 على ارض لبنان، كان للتفسيرات السطحية المجتزاة ساحاتها ورحابها، لكن العمق الوحيد المفسر لكل شيء هو الصراع بين خط واخر في المنطقة العربية، صراع يعود الى ما قبل ذلك بكثير، الى بدايات الحرب الباردة التي تزامنت مع بداية دولة اسرائيل. واذا ما اردنا الغوص اكثر في التاريخ اللبناني لوصلنا الى اربعينات القرن التاسع عشر، يوم جعلت دول الاستعمار القديم من التعددية الطائفية والمذهبية زواريب مدخلها الى الساحة اللبنانية لتنتزع بواسطتها معاهدة الامتيازات الاجنبية من الرجل المريض. قد لا تكون تلك المعاهدة على علاقة مباشرة بصراع المحاور في العالم العربي في القرن العشرين لكنها استعملت وسيلة لاذكائه، ونجحت كل القوى المتامرة في ان تخفي بالستارة الطائفية حقيقة الصراعات الدائرة وعمقها الوجودي. وكي لا نبقى في التاريخ البعيد، نعود الى الاصطفاف الذي تبلور في لبنان منذ الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، واستعرت ناره تحت الرماد منذ التحرير عام 2000 وخرجت السنة لهبها الى العلن عام 2005 مع اغتيال رئيس الوزراء السابق. في كل هذه المراحل الجديدة لم يكن الاصطفاف طائفيا ولا مذهبيا، لكن ثمة قوى محلية واقليمية تريد ان تفرض عليه هذا الطابع بالقوة. بقوة الاعلام وقوة التحريض وان لم تنجحا فبقوة السلاح. ممنوع ان تكون غير طائفي وغير مذهبي، وان فعلت فان عقابك هو اشد بكثير من الذين يقفون في الاصطفاف الطائفي المذهبي المقابل ( اقول هذا وقد عشته حيث لم تعاقب القوات اللبنانية احدا كما عاقبتنا نحن المسيحيين الذين انتمينا الى معسكر الحركة الوطنية، وكنا نتهم بالخيانة – خيانة الطائفة التي تعلو على خيانة الوطن والامة.)
لذلك كان المحظور الاكبر في عكار – شمالي لبنان، مهد وبيئة الحركات الاصولية الارهابية، منذ ما قبل 2005، هو وجود تيارات علمانية او تيارات سنية لا تتبنى العصبية المذهبية. ومن هناك، من عكار كان هذا المد يمتد الى طرابلس. لذلك كانت مجزرة حلبا ضد القوميين السوريين العزل في مكتبهم، وقام من نفذها بتصويرها فيديو وتوزيعه على نطاق عريض كي يرهب كل من يفكر بتكوين خط مشابه في تلك المنطقة. وعليه استمر السعي لانشاء امارة اسلامية في طرابلس. لتاتي الازمة السورية الحالية، استمرارا طبيعيا لهذا الصراع، وليصبح الرهان على جعل الشمال وحدوده مقرا وممرا للرجال والسلاح، ليس فقط الى سوريا بل ولبسط هيمنة نهائية على الشمال.
غير ان القوميين فاجاوا الجميع نهار امس بعودتهم القوية للاحتفال بذكرى مجزرة حلبا، على ارض حلبا، وفاجاؤوا اكثر بان اكثر من مئتي طفل هم من حملواالشعارات والشموع، لان الامر كان رسالة تاكيد للحضور، تزامنت مع الماراتون الذي نظم في طرابلس، وشارك فيه الاف الشبان، في حدث ظاهره رياضي ومضمونه رفض لف المدينة بالعلم الاسود.
الجيش كان مضطرا لحماية الحراكين المدنيين بامتياز، ولذلك تعرض للسيارات المسلحة التي كانت تتجه نحو المظاهرة المضادة، فحصل الاشتباك الذي اصيب فيه عنصر من الجيش وقتل فيه الشيخ ومرافق له. لتنتقل النار وبسرعة الى الطريق الجديدة، بطريقة كان من الواضح انهامحضرة سلفا وبعناية، وضمن المنطق نفسه: عدم السماح بوجود الاخر، لتذكرنا بما عشناه خلال الحرب الاهلية من عمليات فرز طائفي وفرز سياسي بالقوة، عندما كنا نجد على باب بيوتنا عبارة ” غير مرغوب فيك” فاذا لم تمتثل تعرضت واهلك للقتل.
هكذا قيل بالامس للناصريين في الطريق الجديدة: ” غير مرغوب فيك” واذ لم يمتثلوا هوجموا بالف مسلح وتجهيزات تردد الجيش في مواجهتها. وانتهى الامر الى اخراج شاكر البرجاوي وقتل اثنين من مرافقيه. فهل سينتقل الامر غدا الى مصطفى حمدان او الى كمال شاتيلا او سواهم؟ ام انه سيعود للتركز في الشمال وصولا الى تشكيل جيش ميليشياوي في مواجهة الجيش اللبناني يؤمن المنطقة العازلة المطلوبة على الحدود السورية؟ هل سنرى شريطا حدوديا جديدا – في الشمال هذه المرة لا يختلف عن الشريط الحدودي الجنوبي في خدمته لمصالح اسرائيل والغرب؟