في عامي 1990 و1991، قدمت الشوارع العربية مشهداً أسال الكثير من الحبر، سواء في الصحافة أو في كتب الباحثين السياسيين. وبنبرة يختلط فيها الرضى بالمرارة كتب الباحث والأستاذ الجامعي والوزير السابق اللبناني جورج قرم يقول: “إذن ها هي من جديد الجماهير العربية التي اعتقد الرأي العام الغربي أنها قد اختفت نهائياً من الساحة السياسية، تعود إلى السطح وتهدد النظام المستقر. ومما جعل هذه الصحوة أكثر قسوة كون صور هذه الحركات الشعبية قد اختفت منذ سنوات طويلة عن الشاشات التلفزيونية العربية… لكأن هيدرا القومية العربية التي اعتقد أنها دفنت إلى الأبد قد عادت ولكن لسوء الحظ عاد معها  من جهة اخرى التعصب واللاعقلانية” ليتساءل عما الذي عاد فجمع هذه الجماهير التي غرقت طويلاً في خلافاتها بل وعداءاتها، هذا العالم العربي الممزق جغرافياً منذ عقود والمتفرق طائفياً واثنياً وقبلياً وثقافياً؟

الجواب جاء من تونس وفرنسا. فما إن انتهت الحرب حتى عكفت باحثتان تونسيتان على دراسة ميدانية تحاول البحث عن تفسير لتحرك الجماهير الشعبية إزاء العراق بما فيها أولئك الذين كانوا حتى اندلاع الأزمة معادين لنظام بغداد: الشيوعيين، الإسلاميين، نشطاء حقوق الإنسان، والحريات السياسية..الخ. نتائج الدراسة نشرت في جريدة ليموند دبلوماتيك وتلخصت في الاستنتاج التالي: ثلاثة أسباب كانت في أساس هذا التحرك الشامل: إحساس الكرامة الذي نجح صدام حسين في إحيائه لدى الجماهير، وربط القضية العراقية بالقضية الفلسطينية واخيرا المرارات المتراكمة لدى فقراء العرب ضد ثروات البترول الضخمة أو بتعبير آخر غياب العدالة في توزيع الثروة وفي طريقة تبذيرها.  استنتاجات ثلاث، اثنان منها يعودان الى الحس القومي والثالث الى الحس الاجتماعي، لكنها تنبع كلها من الإحساس المشترك الذي يشكل أساس الإحساس القومي. وهي تشكل تحديات كان من شأنها أن تعيق المشروع الاقتصادي السياسي المرسوم لما بعد الحرب. كما توقع المحللون  أن تؤدي إلى إحداث تغييرات كبرى في المنطقة. غير ان الخلاف كان حول توقع نوع هذه التغييرات. وهنا ايضا يعود قرم، وهو الخبير الاقتصادي العالمي ليقول ان الطبيعي ان تبدا هذه التغييرات اقتصاديا  ب “العودة الى الانتاج”، وذاك ما سيثبت منظومة معينة من القيم التي تتناقض مع الخطة والمصالح الاميركية، ولذا  اقتضت هذه  المصالح الالتفاف عليه بنشر ثقافة الاستهلاك كي تظل “النخبة العربية منشغلة كليا بإدارة العائدات النفطية التي تشكل المادة الأساسية للتصنيع في مجتمعات أخرى أجنبية وربما معادية”  ولصالح “الشركات الدولية تحت نظر السلطة المهيمنة التي تمارسها الانظمة القائمة”.التابعة للاجنبي والمدعومة منه.ولا يستغرب ان تكون النتيجة تعزيز الميول نحو “الماورائيات المانوية ” ( الخير والشر )

رغم ان هذا التحليل يعود الى التسعين، ورغم المفاجاة الايجابية المتمثلة في الانتفاضتين الاولى والثانية وتحرير جنوب لبنان، فان المفاجاة الثالثة اي احتلال العراق، قد نجحت في ايصال المجتمعات العربية الى النتائج الكارثية لسيادة لاستهلاك ولسيادة النظرة المانوية: الخير والشر… بل ولتصل هذه الثانية حد تبرير المانوي هذه لاستئصال الاخر.

لا شك في ان هزيمة 2003 وما تبعها من تصفيات، قد قضت على العنصرين اللين وصلت اليهما الباحثتين: الكرامة القومية وفلسطين. فالاولى تحولت الى مجرد مصالح فئوية او فردية، والثانية غابت في سياق التذويب. اما النظرة الى الدول النفطية بانها قادرة على قيادة عملية تنموية في كامل العالم العربي، فقد انقلبت الى رغبة فردية في الحصول على المال من الخليج ضمن سياق الدورة الاستهلاكية وكفى. وكان من الطبيعي ان يشكل غياب العدالة الاجتماعية وقودا لحلم دمقرطة النظام السياسي العربي، الحلم الاكبر للمواطن العربي الذي يعاني من القمع والديكتاتورية والاوليغارشية والذي شكل محرك النضال المرير الذي يخوضه المناضلون في الاقطار العربية منذ الخمسينات. لكن  الدعاوى الديمقراطية الجديدة جاءت مختلفة تماما عن تلك  التي كان هؤلاء يضحون لاجلها.  فاذا بها مدجنة مع الاحتلالات  مانوية مع المواطن، وقائمة على المحاصصة الطائفية او على مقايضة قمع بفوضى وردة حضارية  جديدة.  مساحة شاسعة من الفرق. مساحة تغيب عنها الاحزاب السياسية، بل والحياة السياسية الحقيقية، الحريات السياسية وبالتالي الصراعات الفكرية المؤسسة للمواقف. كما تغيب عنها بلورة شخصية المواطن بعيدا عن الانتماءات الفئوية على اختلافها. لتتكرس هذه الفئويات مجموعة وحوش شرسة ومخيفة تتهيا لالتهام لحم بعضها… بحرية