منذ ان ابتكر الغرب عملية استطلاعات الراي والجدل الحاد يدور حولها بين علماء ومنظري العلوم الاجتماعية والسياسية والميديا. ورغم انها ما تزال طريقة معتمدة ازاء الكثير من الامور، من ابسطها الى انتخاب رئيس الدولة، الا ان التيار الذي يشكك بمصداقيتها من جهة ويحذر من التلاعب بها من جهة ثانية، بات الاقوى بدون منازع. فحتى لو سلمنا بان الجهة المستطلعة (بكسر اللام) لم تزور في النتائج، وتركت ذلك للكمبيوتر، فان مسالتي اختيار الشريحة المستطلعة ( بفتح اللام ) وطريقة طرح السؤال او الاسئلة، تحدد الحيز الاكبر من الاجابة. وبذا تتحول استطلاعات الراي من اداة لقراءته الى اداة لتوجيهه والتلاعب به.
واذا ما اخذنا بهذه الاعتبارات في دول ديمقراطية ( نسبيا )، قد لا تجرؤ على التزوير المباشر، فان هذا لا ينطبق على مؤسسات هذه الدول نفسها حين يتعلق الامر بقضايا خارجية، خاصة في المجال السياسي. غير ان المصيبة تبرز حين يتم اللجوء الى هذه الالية في مجتمعات غير ديمقراطية، كمجتمعاتنا العربية، وعبر مراكز دراسات او استطلاع تابعة تمويليا اما لجهات اجنبية، واما لجهات محلية تعمل لحساب الاجنبي. بحيث تتحول هذه المراكز الى ادوات، اما للتجسس العلمي المشرّع، واما لتزوير الحقائق وفقا لحاجات الطرف الممول وصاحب الستراتيجيا.
واذكر من ذلك استطلاعا اجري في المنطقة العربية، بعد الاحتلال الاميركي للعراق،(كتبت عنه في حينه)، وتناول كراهية او تاييد العرب للولايات المتحدة الاميركي، وجاء في نتائجه ان الاردنيين يؤيدون بغالبيتهم العظمى سياسات الولايات المتحدة في المنطقة ولا يكرهونها ( لا اذكر الرقم بالتحديد ولكنني متاكدة من انه كان يفوق النصف بنسبة عالية ). لم يكن الامر يحتاج الى ذكاء كي نعرف ان الغاية من هذا التزوير لا تتجه الى العرب والاردنيين وانما الى توظيف ذلك لدى الراي العام الاميركي والغربي، وربما لدى بعض الزعماء العرب الذين لا يخرجون من قصورهم ويتمنون تصديق كل ما يقوله له الاميركيون.
اليوم تنشط هذه الاستطلاعات باتجاه سوريا، وتطل علينا البواكير عبر مركز دراسات المنظر القطري الاطلسي عزمي بشارة، الذي ارادت به قطر ان تقيم مشروعية عربية مقابل المشروعية الاسلامية التي يمثلها القرضاوي، علها تتساوى بذلك مع جارتها اللدود السعودية. استطلاعات قطر تقول لنا بان ثلاثة بالمئة من الاردنيين تؤيد الحكم الذي تسميه “النظام السوري”، بينما يؤيد 83% المعارضة المسلحة التي تسميها الثورة. ومن هنا يبدا الغياب المطلق للمهنية، حيث ان ابسط قاعدة يتعلمها طالب سنة اولى جامعة،هي انه لا يجوز في العمل العلمي اطلاق احكام مسبقة، حتى ولا ايحاءا. وهنا يبدو واضحا ان التسميات هي حكم قاطع مسبق. التزوير الثاني الفاقع هو ان الاستطلاع لم يستطع ان يتجاهل نسبة من قالوا انهم يعتبرون ما يجري على سوريا مؤامرة، فلجا الى التاويل بالقول انهم قصدوا مؤامرة مع النظام ضد الثورة (!!!)
واذا كان المركز القائم في قطر والتابع لحكومتها والممول منها، يصر على ان يسمي نفسه العربي، تيمنا بزميلته الفضائية السعودية العربية، فان احدا لا يحتاج الى شرح عنصرين اساسيين في اي استطلاع للراي العام: ديمقراطية البلدين المذكورين، وموقفهما السياسي الموضوعي وغير المنحاز. عنصران لا يتحكما فقط بالاعلام وانما ايضا بكل الدوائر التي تدخل ضمن اطار الميديا بمفهومها الحديث والتي تشكل رافعة من روافع الحرب السياسية ومن ثم السيكولوجية التي تسبق وترافق وتبرر اي عمل عسكري.
انها مستلزمات حرب العصابات التي يتم تمويلها وتغذيتها بكل ماتحتاجه حاليا، ومستلزمات الحرب النظامية التي يتم طبخها على نار هادئة، وقودها سوريا بكل ما فيها من دم وجيش واقتصاد ومؤسسات، حتى اذا اقترن الانهاك بالاستعداد كانت الكارثة. كارثة لا يمكن تجنبها الا بصحوة ضمير عقلاء النظام والمعارضة، وامتلاك كل منهم شجاعة كسر حاجز العداء الداخلي، بالصيغة التي يرون، لان هولاكو على الابواب.