مسلسلات رمضان.. المكان 2

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 25-07-2012

بالأمس كتبنا عن موقع المكان في الأعمال الإبداعية، وتحديدا في الدرامية منها واستعرضنا ذلك في مسلسلين من مسلسلات رمضان الكريم.

المكان الثالث، هو المكان في مسلسل الغالبون 2، الذي يتناول المرحلة الثانية من تاريخ المقاومة اللبنانية منذ 1985 وحتى نهاية التسعينيات. هنا المكان هو بطل العمل، فلا ديكور مصنوعا ولا اصطناعأ، الكاميرا تدور في مواقع جنوب لبنان، قراه وسهوله وغاباته، تقدمها جميلة، خضراء، بديعة، تستحق التضحية من أجلها، كما تقدم القرويين واقعيين بمن فيهم من مناضلين جميلين ومن مواطنين عفويين بسطاء، من قادة أبطال ومن عملاء بنيت شخصياتهم بشكل درامي مركب. كاميرا تجعلك تعشق المكان وتتماهى مع أهله وإذا كان اللعب على الذاكرة الجمعية، وحنين الكبار وفضول الصغار وانبهارهم قد شكل أحد عناصر نجاحات العمل، فإذا بإحدى القراءات النقدية تقول إن الكبار تابعوه بحنين، وقلما رآه احدهم من دون أن يبكي، في حين تمكن الشباب من الاحتفاظ بنظرة نقدية، خاصة ازاء الجانب الفني. أما الصغار فقد تابعوا كل شيء بدهشة وفضول لأنه يقدم فترة لم يعيشوها وتختلف كثيرا عن واقعهم الحالي وبين كل هذه الأجيال يخلق العمل فرصة واقعية لكي يستكمل كل كبير عايش الفترة، الرواية، بعد اقفال التلفزيون، فله الكثير مما يقول حيث لا يمكن للعمل الدرامي ان يقول كل الحكايا.

غير ان كل الحكايا لم تكن لتكتسب هذه الملموسية الحقيقية لولا المكان، ونجاح المخرج رضوان شاهين في توظيف المكان والمحافظة على واقعيته. فعندما يبدأ العمل بقرار أبو حسين ( أحمد الزين)، رب الأسرة المناضلة التي تشكل العمود الروائي للعمل، العودة إلى جرجوع ليكون قبالة موقع سجد، قبالة الشجرة التي تعلم تحتها ودفن تحتها ابوه، نجدنا فعلا في جرجوع التي عرفناها، كما هي، بطبيعتها واناسها وساحات بيوتها واشجارها وما تطل عليه. وعندما يصور المسلسل زيارات السيد عباس الموسوي السرية إلى مواقع المقاتلين في الجنوب، نجدنا فعلا في المواقع المتعددة التي عرفناها او تعرفنا اليها بعد التحرير في جنوب لبنان

المكان هنا يؤثر في المشاهد، لكنه بدأ فعله بالتأثير في الممثل، مما انعكس على ادائه، وذلك ما يعترف به ابطال العمل، سواء منهم من كان من ابناء الجنوب مثل بولين حداد ( زينب)، او من جرب الاسرائيليين لفترة قصيرة من مثل ابن الشوف شربل زيادة (عقل هاشم )، او من يشكر ” الغالبون” لانه عرفه بالجنوب من مثل عصام بريدي( الشيخ اسعد برو). واذ يتحدث الاخير بوضوح عن خصوصية التعامل مع الارض والبيئة في عمل درامي واقعي، حيث يجد في جلسته تحت اشجار الزيتون، على الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء، شحنا استثنائيا، كما يأتي ذلك الشحن من التصوير في مواقع عسكرية سيراها المشاهد لكنها تمنع على الصحافيين، بقدر ما يأتي من تلمس نبض أهل وشباب هذه القرى، والاحساس بمعاناتهم. فان بولين تقول إنها ابنة البيئة الجنوبية وتعرف معنى استيلاء العدو على الأرض، وتعرف القرى التي كانت تسمى بالشريط الحدودي، واذ تؤدي دورها الآن تستعيد تلك المرحلة. وكل ذلك ما كان ليحصل لولا الواقعية. في حين يعود شربل الى ذاكرة الجبل والتهجير واصدقائه في معتقل الخيام.

إحساس بالمكان يتجاوز الاحتراف الدرامي، الى تشكل مشاعر حقيقية، وتبلور قيم انسانية ووطنية، مما يصل بالتالي الى المتلقي عبر ذبذبات تشكل ذلك الخيط الدقيق الوثيق القائم بين ما يسمى علميا بالعلاقة بين تركيب شيفرة المادة المرسلة، وبين تفكيكها اللاشعوري من قبل المتلقي.( Encoding – decoding)

وإذا كان المكان الواقعي قد تغير بما طرأ عليه من عمران وتصنيع وزراعة، جعله اليوم يختلف عما كانه عام 1985، فان في ذلك ايضا خطابا مهما جدا يحمله المكان في هذا العمل، لاهله اولا، حيث ستقوم المقارنة التلقائية التي تبعث في النفس الفخر بما تحقق. كما ان تطور صورة المكان في سياق العمل الذي ستمتد أحداثه حتى نهاية التسعينيات، ستكون بحد ذاتها رسالة وخطابا يقدم هذا الانجاز للمشاهد الذي لا يعيش في المكان.

رسالة تقول ببساطة: على هذه الأرض ما يستحق الحياة..

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون