مشروعيات ومحرمات

الربيع العربي، 28-12-2011

رسالة الكترونية تلقيتها من طالب شاب ملتزم باحد التيارات القومية النضالية يكتب لي،  من فرنسا، معلقا على مقالاتي الاخيرة حول الوضع في سوريا، معلقا على ما كتبته حول حريق دار العلوم في مصر ومقارنته بحريق مكتبة المخطوطات في العراق،  ليوجه لي سؤالا استنكاريا: الا تعتقدين ان الانظمة العربية هي المسؤولة عن تربية مواطنين يقدمون على احراق وتدمير تاريخهم وتراث امتهم؟

اشكر قارئي على ملاحظته واؤيده تماما، بل اضيف اليها ان الكبت والحقد ازاء السلطة الحاكمة هو امر قديم مترسخ في الذاكرة الجمعية لشعبنا، منذ المرحلة العثمانية، وخاصة ايام سفربرلك، حتى مرحلة الاستعمار الاوروبي: فرنسي، بريطاني، ايطالي، واخيرا مرحلة الانظمة العربية المونارشية او الشمولية، والامنية في الحالين. حيث اصبح انعدام احساس المواطن بحقوقه كانسان، بحقوقه كمواطن، بكرامته الانسانية وكرامته الوطنية هو ما يشحنه كبتا وحقدا قد يجعلانه مستعد للاقدام على كل الجرائم. غير ان هذا الاستعداد لا يتحقق الا في حالتين: حالة الجهل وانعدام الوعي الاجتماعي السياسي، وحالة الانهيار الاخلاقي، وكلاها مرتبطة بالاخرى. وهنا ايضا لا يمكن انكار مسؤولية الانظمة عن اغلاق مجالات الصراع الفكري الحقيقي، والحريات العامة،  التي تشكل الوعي،  وعن عدم توفير مجالات الثقافة والمعرفة التي ترتقي به.

من هنا يكون مطلب التغيير والسعي اليه، واجبا وطنيا مقدسا على كل من يعتقد انه يمتلك وعيا وطنيا، ويسعى الى تعميمه. واجب لا يمكن القول بان المجتمعات العربية لم تمارسه خلال العقود الماضية، وان الوطنيين العرب لم يقدموا التضحيات الجلى في سبيله.

لكن الاقرار بكل ذلك يجب الا يجرنا الى ثلاثة امور:

الاول ان مطلب الاصلاح لا يجوز ان يصبح  غطاءا يستغله الاجنبي الطامع في الهيمنة على بلادنا وتدمير قدراتها، – غطاءا للعودة بقواته العسكرية وشركاته المتعددة الجنسيات وشركاته الامنية الحامية لهذه الشركات، لمصادرة ثرواتنا ومصادرة ثرواتنا وافقار شعوبنا واذلال مواطنينا والحؤول دون تشكل الدولة الحديثة، ودون اي التزام باية قضية عربية وباي توجه وحدوي ايا يكن شكله.

الثاني ان لدى شعوبنا قدرات ذاتية وموروثا تاريخيا نضاليا قادرين، وبحراك شعبي داخلي على احداث التغيير وفرض الاصلاحات الحقيقية، حتى ولو استغرق بها الامر وقتا.

ولعل ابرز دليل تاريخي على ذلك، هو ان اول برلمان عربي مثل سوريا الطبيعية كلها هو ذاك الذي اقره المؤتمر السوري الاول عام 1920، وتمت الانتخابات في كل المناطق وفق قانون المبعوثان حيث كان مطبقا خلال المرحلة العثمانية، ووفق قانون الشورى العشائرية حيث لم يكن، وفي دمشق عقد البرلمان الاول ممثلا لكل المناطق وكل المواطنين على اختلاف اديانهم ومذاهبهم واتنايتهم. لكن الفرنسيين دفنوا هذه الديمقراطية الوليدة كما دفنوا يوسف العظمة وزير الدفاع الذي قاد مقاومة الجيش السوري ضدهم. ويتوازى هذا الارث الديمقراطي السياسي بمثيله في مصر. مما يثبت ان الشعوب قادرة على ان تعيد هذه التجربة بصبر نضالي  ووحدة بعيدة عن الشرخ الطائفي والمذهبي المدمرين، وبعيدة عن التدخل الفرنسي، التركي، الوكيلين عن التدخل الاميركي، ولا يمثل الثلاثة الا عناوين لثلاثة احقاب استعمارية دمرت بلادنا واحدة اثر الاخرى.

الثالث، انه اذا كان المتفق عليه ان الديمقراطية قوة، فهل يعتقد ساذج ان الدول الغربية بما تمثله من مصلحة اميركية في الحفاظ على هيمنة الامبراطورية على العالم، عبر تحقيق الهيمنة على الشرق الاوسط الجديد، ومن مصالح اوروبية اقتصادية، ومن ارتباط الجميع بالحفاظ على مصلحة اسرائيل، تريد للدول العربية  وخاصة  سوريا ان تصبح اقوى؟ سؤال يطرح ايضا فيما يخص تركيا التي لم يعد امامها الا الهيمنة على العرب، لكي تكون قوة اقليمية، تعوض فرصة الالتحاق بالمجموعة الاوروبية، وتاخذ حصتها في اقتسام المنطقة العربية بعد انهيارها. هيمنة لا تتحقق بسوريا قوية وندية.

الرابع ان مناقشة اكثر تدقيقا وتخصيصا لا بد وان تمر بقصة الغاز، بمقولة كيسنجر حول النفط: ” انه النفط ياغبي!!” التي تحولت اليوم الى انه الغاز. ومن هنا صراع خطي نوبوكو وخط السيل الجنوبي، ودور قطر وليبيا وسوريا، وغاز المتوسط كله في هذا الصراع المصيري لاوروبا، اميركا، روسيا، والجميع بالتالي.

الحل؟ الحل اذن هو السعي لاجل الاصلاح والتغيير بالوسائل الشعبية السلمية، بعناد واصرار، وبروح وطنية ترفض العنف وترفض الطائفية وترفض التدخل الاجنبي، وترفض التنازل عن ثوابتها.

اما وقد عطى الدم الارض، فان الحوار يصبح اكثر صعوبة، لكنه يصبح اكثر ضرورة وحتمية لمن لا يريد له ان يتحول الى سيل يجرف سوريا الدولة وسوريا الوطن، ومن ورائها المشرق العربي كله. فالاحقاد لا تبني مهما كانت مشروعة، والانتقام لا يبرر مهما كان مفهوما، لكن الانتقام من الوطن ومن الذات لا يندرج الا في واحد من سياقين: الجهل او العمالة.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون