هل يواجه العالم العربي احتلالا احلاليا اخر، في غير فلسطين، يحول السكان الاصليين الى هنود حمر، ويمنح البلاد للقادمين الجدد بثقافتهم ومصالحهم ؟
بالامس صدمني شاب خليجي متعلم تعليما عاليا بقوله:” نعرف اننا سنصل يوما الى ان نكون كالهنود الحمر ولكننا سنكون الهنود المسيطرين على البيت الابيض “. ولا يحتاج الامر الى شرح لتبيان مدى السذاجة في هذا الطرح الذي اردفه صاحبه بخطبة عصماء عن فوائد العولمة وانتهاء عصر القوميات والخصوصيات، واعتبار القرن العشرين امرا قد ازيح الى ما وراء الظهر واليه ينتمي حديثي انا في حين يصر هو على الالتحاق بالقرن الواحد والعشرين.
وبعدها بساعات كنت اعود من احدى المؤسسات بسيارة يقودها سائق مواطن راح يشكو لي عن الصعوبات التي يتعرض لها مع مدرائه الاسيويين.
واذ ياتي ذلك مصادفة عبر التعليق على صدور تشريع اماراتي باقرار اللغة العربية لغة رسمية للبلاد،مما يطرح للوهلة الاولى سؤالا استنكاريا: وهل تحتاج دولة في العالم الى اصدار تشريع لتثبيت لغتها الام ؟ اوليست اللغة اساسا مكونا اساسيا من عناصر كيان الدولة ؟
واذا كان من الطبيعي ان يثبت هذا المكون في الدستور عند انشاء الدولة، فانه من غير الطبيعي ان يصار اليه بعد فترة طويلة من عمرها. غير ان الناظر الى واقع الخليج العربي عموما، ودولة الامارات خصوصا يجد في هذا الاجراء مبادرة جيدة وضرورية لحماية الذات الوطنية. غير ان سؤالا اخر يبرز: هل يكفي قرار كهذا لحماية الكيان العربي في الخليج؟ هنا لب المشكلة.اذ ان المسالة ابعد من قضية اللغة وحدها. فمنطقة الخليج العربي قد تكون من اغلى مناطق العالم لكنها في الوقت نفسه من اقلها كثافة سكانية. ولذلك كان من الطبيعي ان تتجه اليها انظار فئتين من الناس: المستثمرين والايدي والادمغة العاملة من مختلف بقاع العالم. والدول الكبرى الطامعة ابدا في ثروات العالم الثالث والتي تخطط بذكاء ودقة للهيمنة عليها.
واذا كانت مصلحة نمو اقتصاد خليجي تفرض الاستعانة باليد العاملة غير الخليجية، واجتذاب الاستثمارات الدولية، فان هذه الحاجة لا يجوز ان توصل الى فقدان البلد لهويته وللسيطرة على مقدراته وقراره. وهذا ما يقود الى عدة امور واقعية وبديهية:
اولا امر يتعلق بالديموغرافيا: ان مسالة الهجرة والتوطين، لا بد وان تؤدي يوما الى مسالة التجنيس وتحويل هؤلاء الوافدين الى مواطنين كاملي الحقوق ( واذا لم يحصل ذلك طوعا فسيحصل باسم حقوق الانسان ) وعندها تكفي عملية اجراء انتخابات واحدة لتحويل السلطة السياسية وعملية اتخاذ القرار الى الاغلبية التي لن تكون باي شكل اغلبية عربية. واذا ما اخذنا بعين الاعتبار عدد المواطنين فسنعرف ان الوقت الذي يحتاجه هذا التحول لن يكون طويلا. كما اننا اذا ما اخذنا بعين الاعتبار التحالف القائم بين الدول التي ينتمي اليها هؤلاء اصلا واسرائيل ( خاصة الهند ) لتخيلنا الكثير من ملامح المستقبل.
ثانيا مسالة تتعلق بنوع العمل: لم يعد من يهيمن على القرار الاقتصادي والتخطيط الاقتصادي صاحب راس المال فحسب، وانما اصحاب الادمغة والتكنولوجيا، ومن هنا فان كوننا منتجين اصلا للتكنولوجيا، ومصرين على استيراد الادمغة الغريبة، سيعطي لهؤلاء المداخل الواسعة للهيمنة التي لا مجال لمقاومتها.
ثالثا ان الاقرار بحاجة سوق العمل الى اصحاب الخبرات والكفاءات، لا يلغي ضرورة ان تتاح فرصة اكتساب الكفاءات والخبرات لمواطني الدولة بالدرجة الاولى ومن ثم للمواطنين العرب، شرط الا توظف قدراتهم لمصلحة الاجنبي الذي يديرهم، والا يصار الى اكسابهم الخبرة واعلم باليمين وانتزاع انتمائهم وتشويه رؤاهم باليسار. من مثل اقناعهم بان تراثهم لا يحمل الا التخلف وتركيز عقدة النقص لديهم مما يؤدي الى التطرف اما باتجاه التغريب واما باتجاه الاصولية الظلامية. وعدم تمليكهم الادوات والمعرفة التي تمكنهم من غربلة هذا التراث، كما تفعل كل الحضارات والشعوب، لاحياء ما هو قابل للحياة والتطور ورمي ما يسقط تحت الغربال، وادراك اننا نعيش مرحلة متردية من تاريخنا، كما مر بكل الشعوب، وان واجبهم ليس التنكر لهذا التاريخ بسببها وانما صياغة الحاضر والمستقبل بما يعيده الى خط التطور المشرف. فما قيمة كل ثروات العرب اذا لم توضع في خدمة التنمية البشرية المستدامة للمواطن العربي اولا؟ واما هلوسة العولمة الايجابية التي الغت الفوارق بين الشعوب، فيكفي ان نلفتهم الى الصراع المستميت على الهيمنة الاقتصادية العولمية بين اللولايات المتحدة والصين، والاتحاد الاوروبي وروسيا، ليفهموا ان صراع الامم لاجل مصالحها واقع تاريخي لا مجال لتغييره، حتى وان اختلفت اساليبه وصياغاته. والا فلم تدفع الولايات المتحدة 12 مليار دولار شهريا لاحتلال العراق، ولماذا لم تدر الصراعات الدولية في دارفور الا بعد اكتشاف النفط والغاز، ولماذا ؟ ولماذا ؟؟؟؟ بل ولماذا نظل نحن العرب ارض ملعب تدور عليها الصراعات التي تستعمل تعصبنا وتخلفنا اسلحة تدمير ذاتي يؤمن تحويل مصالحنا الى كرة تتقاذفها الاقدام؟
رابعا مسالة تتعلق بالتطور التاريخي الاقتصادي، وهي ان الخلل الهائل في التوازن القائم بين التطور السوسيولوجي والتطور الاقتصادي والتطور الثقافي يخلق حالة من انعدام التوازن التي تخلخل كل شيء. وبوضوح اكثر: لقد عبرت المجتمعات الغربية سوسيولوجيا من عصر ما يطلق collectivite فلاسفتها وباحثوها اسم “عصر الجماعات ”
الى عصر بلورة شخصية الفرد، بمعنى قدرته على بناء خياراته وفق رؤيته الذاتية لمصالحه ولمصلحة مجتمعه وبلاده. وبالتالي الانتماء الى الناس الذين يشاركونه الرؤية نفسها بشكل اختياري كليا. وبهذا تشكلت الاحزاب السياسية التي ا قامت الديمقراطية الحديثة. هذا التطور لم يات الا بعد ان دفع الغرب ثمن الحروب الدينية ودفعت البشرية كلها معه ثمن الحروب العرقية، وانتقلت رؤيته الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية الى ما يسمى اليوم بالقومية المركبة، تلك التي تجعل من الخط الثقافي للمجتمع بوتقة تذوب فيها كل التعدديات. غير ان هذا التطور لم يكن ممكنا على الصعيد الاجتماعي لولا الثورة الصناعية، ومن ثم جاءت الثورة التقنية بعد اكتمال الدولة- الامة، لتطرح الحاجة الى تجمعات كبرى بين هذه الدول تؤمن كتلة كبيرة قادرة على تحقيق المصلحة في ساحة العولمة. ثورتان لم نتعرف اليهما بعد الا استيرادا. وجاء اقتصاد السوق ليؤمن بدوره هيمنة هذه الكتل المحدودة العدد على العالم بدوله الهائلة العدد. وبمقارنة بسيطة يمكننا ان نكتشف اية قفزة في المجهول يهلوس بها المنادون بالتحاقنا بالقرن الواحد والعشرين دون حل كل هذه الاشكالات في مجتمعاتنا، علما بان القول بحلها لا يعني الحاجة الى الوقت نفسه الذي استغرقته التجربة عند سوانا، لان الافادة من تجارب الغير ومنجزه امر ممكن بقدر ما هو ضروري.
من هنا فان بلورة القومية المركبة يجب ان ينطبق اولا على نظرتنا لانفسنا نحن العرب، بحيث نفهم العروبة حضارة وثقافة تضم في نسيجها التاريخي الالفي كل الاعراق وكل الاديان التي شكلت شعوب هذه المنطقة عبر التاريخ، وتوحدت في خط حضاري قادر على اذابة كل قادم جديد بعد استيفاء حضوره شرط الزمن وشرط الارادة في الانتماء. تذويب يحتاج الى الحفاظ على اللغة الجامعة وعلى الثقافة المكونة للذات، كما يحتاج الى الامساك بالاقتصاد، وترسيخ ذلك كله عبر العملية التربوية والاعلامية والثقافية.
اما اذا لم نفعل ذلك، فسنظل طوائف ومذاهب واديان واعراق وعشائر وعوائل في تركيبة اقل من مستوى مفهوم ” المجتمع “. كما سنظل تركيبات حكم اقل من مفهوم الدولة ( سواء في الدولة القطرية القائمة، ام في دولة عربية كبرى حلم، لا بد من تحقيقه بشكل او باخر فدرالي او كونفدرالي او اي مجلسي تعاوني الخ… اذ لا وجود للصغار في عالم الاتحادات الكبرى.
اما الفرح بمنجز عمراني واستثماري ليس لنا رغم انه على ارضنا فلا يسر الا حديثي النعمة الجهلة.
ويظل السؤال: هل سيتمكن قرار الامارات العربية المتحدة بفرض اللغة العربي لغة رسمية من المساهمة في وقف الطوفان والتدهور ؟ ونعتقد بان الجواب يكمن في كيفية التطبيق، كما يكمن في ادراك ان اللغة ليست مجرد رموز يتم التعبير بها بشكل اوباخر، وانما هي روح الثقافة الحاملة لها، ولذا فان صيانتها تستوجب صيانة الروح العربية بتجذيرها وتحديثها في ان، والا كنا نحقن الدواء في جسد ميت. واخيرا قد يكون تبني مجلس التعاون الخليجي بكامله لهذه الخطوة الرائدة ضمانا اكبر لنجاحها في تحقيق الهدف المرجو منها.