حفاوة خاصة تلك التي خص بها ساركوزي الرئيسين الاسد وسليمان في قمة باريس، وان هي الا من باب تشجيع الهر على لحس المبرد، لان ثمنها امران: تكريس التجزئة باعلان تبادل السفراء بين بيروت ودمشق، فيما يعني توقيعا لبنانيا سوريا نهائيا على خريطة سايكس بيكو، وتكريس الاتجاه نحو السلام والتطبيع مع دولة العدو.
امران يقعان في قلب هذه الدعوة الفرنسية لما يسمى: ” الاتحاد لاجل المتوسط “، اتحاد تاتي اليه اوروبا موحدة ونذهب اليه نحن شراذم، نتف من امة تريد كل منها ان تكون امة في زمن لا يعترف فيه العالم الا بالتكتلات الكبرى ، زمن جعل اوروبا المتعددة اللغات والاعراق والقوميات، تعبر من مرحلة اكتمال الدولة – الامة ، الى مرحلة تشكيل الدولة- الاتحاد على مستوى قارة كاملة تريد ان تجد لها مكانا موازيا للولايات المتحدة او للصين او لروسيا على خارطة القوى الفاعلة في التوازن الدولي، في حين جعلنا نحن العرب نرتد عن الحلم القومي سواء بصيغته التي ارادت الوحدة الشاملة، او تلك التي تقول بالوحدات الاربع: المغرب – وادي النيل – الخليج – سوريا الطبيعية، كخطوة ضرورية على طريق الاتحاد الاشمل الذي يظل الهدف النهائي. نرتد الى الانعزالية فالى التشرذم العنقودي من عصبيات طوائف واديان واعراق واتنيات ياكل بعضها بعضا، في عملية تدمير ذاتي، كامن حينا وظاهر حينا اخر .
معادلة لا تدخل الا في منطق زمن الغرائب الذي يرمي شباكه العنكبوتية على هذا الشعب العربي، وعلى حكامه. والذي لا يجعل من التجزئة اهانة، ولا من الدعوة الى التطبيع المجاني اهانة، ولا من الاستفراد ببعض العرب ضد بعضهم الاخر اهانة!! وليمض بنا الخيال النابع من منطق تدرج الامور وتسلسلها، الى تصور معاهدة دفاع مشترك بين اتحاد المتوسط هذا، وعندها سيصبح على مصر وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ان تقاتلا بجيوشهما الى جانب اسرائيل اذا ما تعرضت يوما لنزاع مع العراق او الاردن او السودان. غير اننا وبعيدا عن الخيال نجدنا امام واقع هدفين كانا في اساس الدعوة الساركوزية: اولا، التطبيع مع اسرائيل، ومجانا ( وفق المبدا الاسرائيلي المعروف: التطبيع قبل التوقيع، الذي كانت تطرحه الدولة العبرية ودوائرها الصهيونية في العالم،على سوريا بشكل خاص وترفضه هذه الاخيرة بحدة من يتلقى اهانة ). وثانيا فتح الساحة العربية المتوسطية للاستثمار الشمالي الاوروبي، في وقت يقترب فيه هذا الاخير من حالة التماهي مع الولايات المتحدة واسرائيل
واذا كان من المعلوم ان هؤلاء لا يتجهون الينا اقتصاديا الا تطبيقا للرؤية الاستعمارية والاسرائيلية التي تقول اننا شعوب تمتلك الكثير من الثروات ولا تستحقها، لذا فلا بد للمستعمر الغربي ان يضع يده عليها. ثروات يسيل لها لعاب ساركوزي وبرلسكوني ومن وراءهما، وفي مقدمتها غاز الجزائر ونفط ليبيا، تليهما الثروات البحرية والزراعية ، ولا تقل عنهما مشاريع الاعمار والتحديث، في جميع المجالات، هذا اضافة الى اهمية هذا المدى كسوق مستهلك من جهة، وكارض مثالية لاعادة توطين المشاريع خاصة بالنسبة للعمالة الرخيصة التي لا تتمتع في بلدانها بالتامينات الاجتماعية التي تلتزم بها الدول الاوروبية ازاء العاملين فيها ( وهذا ما تتم صياغته بالشعار البراق: الحد من الهجرة وزيادة الاستثمار في دول الاوطان ) . فان هذا المشروع الاقتصادي لن يؤدي الا الى زيادة انتفاخ جيوب الشركات الاوروبية والاسرائيلية، والمتعاونين المحليين معهما، على حساب شعوب دول الجنوب العربية
اما الخطر السياسي فيكمن في استهداف واضح: فتح باب التطبيع لمن كان يرغب فيه ولا يريد المجاهرة به بقوة، مراعاة للحس الشعبي، واحراج من لم يكن يرغب فيه، ولا يزال، لكنه يجد نفسه مطوقا ومهددا بالعزل، داخل امته نفسها. وهنا لا بد من تسمية الامور باسمائها، حيث ان يد الاغراء تمتد بشكل اساسي الى سوريا و لبنان، حيث يجد الاثنان نفسيهما بين دول وقعت المعاهدات وانتهى الامر، ودولة طبعت دون ان توقع وانتهى امرها على المدى القريب على الاقل، ودول تطبع عبر هذا الاتحاد المتوسطي. من هنا فان الانفتاح السريع ازاء سوريا من جهة حكومة ساركوزي، لم يكن الا تمتينا للطوق بقفازات حريرية، حتى اذا لم تنفع سنرى، وبسرعة، العودة الى الاخرى الحديدية. فدمشق دخلت المفاوضات، واعلنت عنها، مما يقتضي تشجيعها باقصى ما يمكن على المضي قدما وبسرعة في اتجاه التنازلات المطلوبة، تشجيع يمضي من التصفيق الاعلامي، الى الزيارات الفرنسية، الى الوعود المعلنة وغير المعلنة، الى مطالبة فرنسا بالتدخل في المفاوضات وصولا الى مفاوضات مباشرة. و لم تكن زيارة فرنسا كلها، وبكل مكوناتها السياسية، الى لبنان في الشهر الماضي، في جزء كبير منها، الا تحرك ضمن هذا السياق نفسه. وهل هناك ما يجمع الطبقة السياسية المتناحرة في كثير من الدول الغربية الا مصلحة اسرائيل وضغط اللوبي الصهيوني المتوزع على كل الاحزاب والتنظيمات؟