عندما كنت طالبة حقوق في لبنان، كنا نفخر باننا ننتلمذ على ادمون رباط العملاق الدستوري الحلبي السوري، وعندما كنت في باريس عام 2004 وجدت طلاب الحقوق في باريس الاولى –سوربون، يعتمدون على ادمون رباط كمرجع اساسي في القانون الدستوري . لم يكن هذا الخبير الدستوري الا واحدا من العمالقة الذين خرّجوا من جامعة دمشق كبار الحقوقيين العرب. فاين ذهب كل هؤلاء ليعد خبراء روس مشروع دستور لسوريا؟
الروس حلفاء ، ويعتبرون انهم حموا الدولة السورية ، وانهم قوة دولية بين اربع او خمس قوى تحكم العالم. وعليه لهم الحق في التدخل . يقابلهم الايرانيون بانهم هم من حمى النظام وعليه ايضا لهم الحق في التدخل .
لكن التاريخ سيكتب ما يعرفه الجميع من ان صمود دمشق هو من اعاد روسيا الى تبوء موقع القوة الدولية كما هي عليه. وان ثمن تدخلها هو تحقق حلم وصولها الى المياه الدافئة منذ كاترين الثانية الى السوفييت الى بوتين. ولو ان دمشق سقطت بيد الارهابيين ومن وراء مشروعهم الدولي لكان هؤلاء اليوم في الكرملين.
كذلك يعرف الايرانيون انه لولا صمود دمشق لما عقد الاتفاق النووي ولما ولحوصرت طهران اقليميا ودوليا.
فالحرب على سورية كانت منذ ما قبل بدايتها العسكرية رهانا تاريخيا على بقاء النظام العالمي الجديد الذي ترسخ عام1990. او تشكل نظام عالمي واقليمي جديد.
نعم كان هناك حلفاء دعموا ، ولكن الجيش السوري هو الذي قدم الدم في صراع اسطوري لمدة ست سنوات ، كان نصف العالم يقدم فيها كل انواع الدعم ، المالي والبشري والتسليحي والاعلامي للتنظيمات الارهابية وللسياسيين الذين يراكمون في عواصم العالم ما راكموه من ثروات ثمنا لبيع سوريا.
في الحرب العالمية الثانية ، انزل الاميركيون في النورماندي قواتهم التي قامت بتحرير فرنسا، لكنها لم ترغم شارل ديغول بعدها على دخول حلف الاطلسي . ولم تكتب لفرنسا دستورا ينسف قيمها الجمهورية ، بل تركت لها ان تعدل دستور الجمهورية الرابعة الى ما سمي دستور الخامسة.
نتجاوز هذا الاساس ، الى مقترح الدستور نفسه، ونبني على السؤال : لماذا قامت الحرب على سوريا؟
في الجوهر وبعيدا عن قواعد اعلام الحرب ، كان المستهدف ثلاث:
– النموذج الاجتماعي السوري ، الذي لا يعود لا الى الاسد الاب ولا الابن. انها سوريا التاريخية المتعددة الاعراق والاديان في مزيج حضاري وحدته الاف السنين ، وثبتته الدولة الحديثة ، كدولة مواطنة ايا تكن المأخذ الاخرى عليها .
– النموذج الاقتصادي السوري ، القائم على اقتصاد الانتاج ، بحيث اصبحت سورية هي الدولة العربية الوحيدة التي لا ديون عليها ، بل وتنعم بالاكتفاء الذاتي ، زراعيا والى حد ما صناعيا. كل هذا في ظل نظام عدالة اجتماعية توفر التامينات العامة ، ونظام الحمائية الذي يؤمن الاقتصاد الوطني . ( وهذا ما تعود اليه اميركا دونالد ترامب لمعالجة ازمتها الاقتصادية ) فيما يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدا السيادة الذي تعتبر العولمة الغاءه مطلبا اساسيا يجب ان يفرض ولو بالقوة .
– القوة العسكرية السورية المتمثلة في الجيش العربي السوري ، الجيش الاخير المتبقي في قائمة القضاء على الجيوش العربية المعادية لاسرائيل. بعد ان تم تحييد المصري ( ويتم استنزافه) ، وتم حل العراقي.
قياسا على هذه الاهداف الثلاثة ننظر الى المقترح الروسي ونرى انه يحقق مطلب ثلاثة فرقاء : دعاة المحاصصة الطائفية والاتنية والتقسيم المقنّع، دعاة االنيوليبرالية الاقتصادية، وما يتبعها من ترجمة اجتماعية، ودعاة تحجيم الجيش السوري عددا وعقيدة ودورا.
أما ما تبقى فامور يخضع ما فيها من سلب وايجاب للمناقشة.
جمعية المناطق. أية مناطق ؟ وما مصادفة تزامنها مع دعوة ترامب الى المناطق الامنة؟
قد يقول البعض ان جمعية المناطق هي بمثابة مجلس الشيوخ ( كل عن منطقته) الموازي لمجلس النواب الذي سمي ” جمعية الشعب” بدلا من مجلس الشعب ، ولكن العودة الى نسبة الصلاحيات المعطاة لمجلس المناطق تجعله الحاكم الحقيقي للبلاد، بل تجعل من البلاد بلادا بعدد من الرؤساء فيما لا يبتعد كثيرا عن التقسيم. علما باننا لم نقرا شيئا عن طريقة تشكيل هذه الجمعية.
وقد يقول اخرون ان النظام الفيدرالي متبع في اكثر دول العالم بدءا من اميركا وصولا الى روسيا ومرورا باوروبا واسيا . صحيح. ولكن هل تقبل الحكومة الروسية او الاميركية او غيرهما بولايات على اساس طائفي – ديني او عرقي ؟ ام انها مجرد اقسام جغرافية تخضع للدولة الفدرالية التي تحصر بها امور السياسة الخارجية والدفاع. وهذا عكس ما يتبدى في المسودة المقترحة. اذا كان الهدف هو اللامركزية فهناك الادارات المحلية، ويمكن تطوير أدائها. اما اذا كان الهدف ارضاء الاكراد، فان الباب قد فتح لعواصف عاتية في بلد يضم بحكم تاريخه الألفي أعراقا مختلفة. يثبت ذلك أن نص اعتماد اللغة الكردية قد الحق بنص الحق في اعتماد لغات اخرى في مناطق اخرى. علما باننا لا نعتبر ان المشكلة هي في التعدد اللغوي طالما ان للدولة لغة رسميةن وان الاخرى توضع في اطار حجمها الثانوي. ولكن في ما تحمله هذه الاجازة من دلالات في واقع بلبلة الهوية بل ووحدة اراضي الدولة. ولا ندري ما اذا كان للبند المتعلق بتعديل حدود الدولة وربطه بالاستفتاء العام، رابط بالمشروع الكردي او التركي، حتى ولو كان من الواضح أن المقصود منه تشريع استباقي لحل مقبل سوف يطرح – او يفرض- بخصوص الاراضي السورية المحتلة من قبل اسرائيل.
الاسوأ بل والاشد سوءا، من البعد العرقي، هو النص على المحاصصة الطائفية: “التمسك بالتمثيل النسبي لجميع الطوائف والأديان والمكونات لسكان سورية، بحيث تحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية”. فمنذ متى كانت سورية بحاجة الى محاصصة ؟ هل وصل فارس الخوري الى رئاسة الوزراء بالمحاصصة؟ هل وصل داود راجحة الى قيادة الجيش بذلك؟ هل وصل كفتارو وقدري جميل بالمحاصصة ؟ هل عرفنا يوما، الا بالمصادفة، الهويات الفرعية للقيادات السياسية في سوريا كي نتمكن الان من تعدادها؟ اليس من الجريمة تحويل دولة مواطنة تاريخية الى دولة محاصصة ؟ الم نر ماذا فعل ذلك بلبنان والعراق؟ ناضل الوطنيون لاجل الغاء المحاصصة في لبنان كي يتحول الى دولة حقيقية فخضنا الحرب الاهلية وخرجنا منها اسوأ. طرحت لبننة العراق، ونجحت واصبحنا اسوأ. الان تطرح عرقنة سوريا، وذلك ما قاتل الشرفاء ست سنوات لمنعه. فهل سيحل السلم الذي فرضته دماء الجيش السوري وحلفائه ما لم تحلّه الحرب؟ هل سيترك توصيف الهوية الوطنية الى العرق والدين كي نعطي مبررا لتركيبة دولة الاحتلال؟ بل كي نعود ببلادنا الى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة.
في البعد الثاني والخطير تاتي مسالة الحاق الدولة السورية باقتصاد السوق حيث يرد حرفيا : ” وتخلق الدولة على أساس علاقات السوق ظروفاً لتطوير الاقتصاد وتضمن حرية الأعمال… وتضمن حرية تنقل البضائع والرساميل”. والغريب ان ذلك يطرح في وقت تعود فيه اميركا دونالد ترامب الى مبدا الحمائية وتعزيز اقتصاد الانتاج، وتتجه اوروبا الى اللحاق بها. فيما يطلب الى سوريا ان تعود الى ما هو اسوا من مشروع الدردري. بالتحديد: ان تتخلى عن كل منجزاتها في تبني اقتصاد الانتاج والحمائية الذي جعلها الدولة العربية الوحيدة غير المدينة، (وقد يكون هذا اهم اسباب الحرب عليها.) أن تخلق ظروف التطوير بناءا على علاقات السوق لا على علاقات الانتاج وعلى الامن الاقتصادي الوطني، أن تفتح حدودها للبضائع والرساميل. ببساطة، أن تطرح سورية في المزاد العلني . ولا نفهم ما معنى القول بان ” الموارد الطبيعية يمتلكها الشعب”. الا بانها لا تخضع لسيادة الدولة ، خاصة ونحن على ابواب استخراج الغاز .
فيما ينسجم تماما مع الغاء عبارة : ” تحقيق العدالة الاجتماعية ” من قسم الرئيس، والغاء اشتراط نسبة تمثيل العمال والفلاحين في مجلس الشعب . ولنا ان نتخيل حال بلاد تخرج من الحرب الهدامة لتجد نفسها وقد جردت من كل تكفّل العدالة الاجتماعية من قبل الدولة، وشرعت أبوابها أمام غيلان الرأسالمال النيوليبرالي ورميت في بحر السوق.
يبقى البند الثالث. المتعلق بالقوات المسلحة ، فلا تجنيد اجباري، ولا دور في الانتقال السياسي ، والاغرب ورود عبارة “قمع المواطنين”. فهل كان الجيش السوري الذي دافع ببلاء اسطوري عن وحدة البلاد وسيادتها في وجه الارهابيين الوافدين وعملاء الخارج يقمع المواطنين أم يحميهم؟ والى من ستؤول مسؤولية حماية البلاد؟ ولمن تترك مسؤولية “العنف القانوني المشروع” الذي تضطلع به الدولة في كل المبادىء الدستورية في العالم؟ وماذا يعني القول بان الجيش يخضع لرقابة المجتمع؟ من المقصود بالمجتمع ؟ ولماذا تحذف عبارة ” الدفاع عن سلامة ارض الوطن وسيادته الاقليمية” الواردة في الدستور الحالي؟ اهذا هو ثمن تضحيات حماة الديار؟ ام انه مطلب اسرائيل في تحجيم الجيش السوري، بعد ان فشل الغاؤه كما العراقي وتحييده كما المصري؟
شطب عروبة الدولة ( بدلا من تحديد مفهوم العروبة ثقافيا لا عرقيا)، شطب علمانيتها ومدنيتها، شطب نظامها الاقتصادي القائم على الانتاج والاستقلالية ومقاومة ثقافة الاستهلاك والعدالة الاجتماعية ، شطب مركزيتها ، فيما يقارب التقسيم، تحجيم جيشها. اذن ماذا بقي من اهداف الحرب على سوريا؟