حملة الصورة هذه ليست جديدة في الحروب، وخاصة في الحروب التي تشن ضد أية قوة يهدد بقاؤها إسرائيل. ومن يذكر إعلام الحرب ضدّ العراق في الصحافة الغربية يعرف ذلك جيداً، حيث تزول الفوارق بين وسائل إعلام اليمين ووسائل إعلام اليسار، إذ يتحرّك اللوبي الصهيوني المشغّل لها جميعاً. لذا فإن هذه الأوركسترا المنظمة لا تبتعد عن التصريحات التي انهمرت في إسرائيل حول حلب، ولا عن التوازنات الدولية الآخذة في التبلور، ولا عن الحملة الانتخابية الفرنسية القادمة.
الصورة كلها مشوبة ببياض مظلّل بالازرق الشفّاف، بقعة من الأرض الفارغة إلا من شظايا دمار، حائط مهشّم أبيض عليه كتابة بالأسود:”راجعين يا هوا”، وتحتها حلب 15/12/2016.إما ما يحتل زاوية ربع الكادر فشاب وفتاة تصفهما الصحيفة كما يلي:”صورتهما ستبقى للأجيال القادمة تحت عنوان” عشاق حلب، هو بالجينز والسترة ( البلوزون)، طاقية صوفية على رأسه، الكلاشينكوف معلق بالكتف، بينما ذراعه تطوق كتفي حبيبته الموعودة، هي بمعطف أزرق بترولي، الوجه مطوق بمنديل صوفي والرأس منحن على كتف حاميها. الثنائي الشاب الذي التقطت له الصورة من الخلف يقف في مواجهة جدار مدمر خطت عليه كلمات من أغنية للمطربة اللبنانية فيروز، راجعين يا هوا، وتحتها توقيع يؤشر إلى يوم مغادرة حلب”.
بقية التقرير الطويل تتكرّر فيه العبارات المصممة بدقّة لاستنفار مشاعر الحنين اليساري الثوري الرومانسي عند القراء، من مثل القول في مقطع آخر :”وعلى صورة العاشقين ذوي الرومانسية الثورية القوية، قام المناضلون لأجل الديمقراطية بكتابة شعارات أخرى “ثم تورد بصياغة متقنة بيت شعر لنزار قباني: أحبيني بعيداً عن مدينتنا “وعبارة “وداعا يا أمي” لتصف من يكتبون ب: “روح مشتعلة أخرى”، “دفنوا أحلامهم”…”كتبوا خيبتهم على الجدران”، “حملوا في حقائبهم حجراً من بيوتهم، وقبّلوا التراب”.
الصحيفة المذكورة هي لو موند الفرنسية، التي تمثل صوة يسار الوسط المنتج لفرانسوا هولاند. وهي تمضي في لعبها السيميولوجي الخطير حدّ تشبيه الخارجين من حلب بالذين خرجوا من فلسطين عام 1948.
لكن مهلاً، وقبل أن ندخل في تحليل هذا الخطاب ننتبه أن الموضوع نفسه، بتفاصيله، قد نشر في صحيفة لوفيغارو، تحت عنوان:”الشعر كوداع أخير”. ولكنه أضاف إلى الصورة المذكورة صوراً لكل الجدران التي حملت العبارات التي ذكرنا. مع تعديل بسيط في صوغ التعليق. لو فيغارو صحيفة اليمين، فهل يعقل أن يكتب مراسل واحد للإثنتين؟ لا التوقيع ليس واحداً، الأول مراسل من إسطمبول (ديلفين منوي) والآخر من بيروت (بنجامين بارت). فكيف وصلت لكليهما الصوَر ذاتها؟ وترك لأحدهما أن يكتب بصياغة تجتذب اليسار والعرب والمسلمين، والثاني أن يكتب بلغة تجتذب اليمين؟ لوحظ أيضاً أن الصوَر نشرت، بعدها، أو بالتزامن على وسائل التواصل الاجتماعي.المصدر واحد، الآلة واحدة والاستهداف في الحرب الإعلامية واحد وإن اختلفت المسارب.هذا التقرير المعمّم، ماذا يريد أن يقول ؟ربما يقول إن الذين خرجوا من حلب ليسوا مقاتلين مسلحين أصوليين وإنما مدنيون مسالمون أبرياء.بل وإنه يعمل على مسح الصورة الإرهابية عن مسلّحي حلب، وربما عن جميع المنظمات الإرهابية في سوريا قبل الوصول إلى معركة جديدة والأهم قبل الوصول إلى طاولة المفاوضات.
مسح يعتمد أولاً على مصطلحات ومعان دلالية إنسانية عميقة: الحب – الشعر – الأم – الأرض – الثورة – الخيبة والمرارة – حماية الرجل للمرأة الحبيبة.
ثانياً: على إلغاء صورة الأصولية والتشدّد عن هؤلاء: شاب يحتضن بحريّة شابة حبيبة – لا هي زوجته ولا أمه أو أخته، وإنما “حبيبته الموعودة” ( كيف عرف الصحافي من بيروت واسطمبول إنها كذلك؟ )، ولا يعيقهما كونها تلف رأسها بمنديل. ثم إن كليهما يرتدي ملابس أنيقة جميلة ونظيفة رومانسية وحديثة ( معطف أزرق، وجينز وسترة رياضية،)، إذن فنحن أمام جماعة منفتحين حداثويين رومانسيين حالمين بالحرية والديمقراطية والحب.ثالثاً، لأجل هذا المسح يوظف بإصرار رمزان كبيران كامنان في الوجدان الجمعي العربي، يلخّصان كل المعاني المذكورة: فيروز ونزار قباني ( الشعر والموسيقى) .وبصرف النظر عما إذا كان منظّم هذه الدعاية ومخرج هذه اللقطات الفوتوغرافية، قد التقطها داخل حلب أو في مكان آخر، فإنه لم يكترث إلى كون هذه الصورة مستحيلة في بؤرة أصولية، ولا إلى كون تنظيمات حلب تكفّر فيروز ونزار. وذلك لثلاثة أسباب:
الأول أن المتلقي الأجنبي قد لا يعرف ذلك، والثاني أن من يعرف، عربياً كان أم اجنبياً، قد تكون لديه دوافع نفسية موقفية تريده أن يصدّق وأن يوظّف، والثالث قاعدة في فن التأثير الإعلامي تقول إنه لا بأس من اكتشاف الأكذوبة بعد فترة لأن تأثيرها يكون قد تشكّل وانتهى الأمر.رابعاً، وهنا النقطة الأخطر، يأتي تشبيه هذا الخروج بخروج الفلسطينيين عام 48، ليعني أموراً كثيرة، أهمها: -تمييع موضوعة الاحتلال والأرض والحق، وتقديم الحرب في فلسطين وكأنها مجرّد حرب أهلية، ما يعني المساواة بين الحكومة والجيش السوريين وحكومة وجيش الكيان الصهيوني، بل وجعل عداء المسلّحين السوريين لدولتهم مبرراً كعداء الفلسطيني للاحتلال، أو جعل نضال الفلسطينيين مساوياً للإرهاب. تمهيداً لما بعد الحرب على سوريا، في ما يخصّ الصراع الفلسطيني العربي – الإسرائيلي.
حملة الصورة هذه ليست جديدة في الحروب، وخاصة في الحروب التي تشن ضد أية قوة يهدد بقاؤها إسرائيل. ومن يذكر إعلام الحرب ضدّ العراق في الصحافة الغربية يعرف ذلك جيداً، حيث تزول الفوارق بين وسائل إعلام اليمين ووسائل إعلام اليسار، إذ يتحرّك اللوبي الصهيوني المشغّل لها جميعاً.لذا فإن هذه الأوركسترا المنظمة لا تبتعد عن التصريحات التي انهمرت في إسرائيل حول حلب، ولا عن التوازنات الدولية الآخذة في التبلور، ولا عن الحملة الانتخابية الفرنسية القادمة. ففي الأولى كان من الملفت انضمام الحاخامات، شرقيين وغربيين إلى الطبقة السياسية معارضة وحكومة،في حملة التنبيه إلى خطر انتصار سوريا، وفي الثانية جاء اجتماع الأوروبيين في بروكسل تنادياً لمواجهة إمكانية حصول تفاهمات بين بوتين وترامب على الساحة الأوروبية، تجعل الشرق الأوسط على الهامش بمعنى أنه، إما الحل وإما سحق المسلّحين في إدلب، كما قال فرانسوا هولاند. وفي الثالثة يبرز بوضوح التناظر الكامل بين فرانسوا فيون الذي يعد بإعادة السفارة إلى دمشق، وفرانسوا هولاند الذي يعيش سعاراً مجنوناً إزاءها ولكنه في الوقت نفسه يردّ على فيون بالقول: لست أنا من سحب السفير وإنما ساركوزي.هي الحرب، وليس هناك من ينكر دور الذراع الإعلامية وفن “دعاية الحرب” فيها، هذا الفن الذي استقرّت قواعده في الغرب، خاصة بريطانيا وأميركا منذ الحربين العالميتين وما زالت تتطوّر وتتجدّد، خاصة بعد أن جاءت الصورة لتشكّل خطاباً أشد قوة من الكلمة.
وإذا كان هذا الغرب قد أرسل إلى الجماعات المسلّحة خبراء عسكريين لإدارة معاركهم فلا بدّ من أنه أرسل – أو وظّف- خبراء إعلام لإدارة إعلامهم. وإذا كان الطرف الوطني السوري والمحور الذي ينتمي إليه لا يمتلكان امبراطوريات إعلام نعرف من يمتلكها، فلا بدّ من العمل على دعم الموجود منها وتطويره علمياً. والأهم ،الإفادة من وسائل التواصل الاجتماعي في إطار حملة منظمة، استراتيجية، حرفية، تنتج مادتها وتعيد تدوير ما تنتجه وسائل الإعلام التقليدية المناضلة.