«لن تكون هناك عودة إلى عالم ما بعد العولمة» تأكيد جاء في مقال نشرته مجلة «فرشافتوشن»، وحمل توقيعي باراك أوباما وانجيلا ميركل. والغريب أن هذه المقولة تكررت بعد أسبوع واحد على لسان الرئيس الصيني جينغ بيانغ ،حيث قال «لن نغلق الباب على العالم، بل سنفتحه أكثر لأجل تقاسم ثمار التنمية»، مطالباً الزعماء الحاضرين بتشجيع المبادرات الصينية للتبادل الحر، وذلك لملء الفراغ الذي ستتركه أمريكا دونالد ترامب. الرؤساء الثلاثة سجلوا موقفاً واضحاً ضد الحمائية التي سينتهجها الرئيس القادم إلى البيت الأبيض، وسموها بوضوح ولكن من منطلقين مختلفين. وإذا كان من المنطقي أن يدافع الغرب التقليدي عن التبادل الحر الذي أسّس عليه ليبراليته منذ نحو قرنين، وأن ينبري قائدا أكبر دولتين ليبراليتين للدفاع عن العولمة «في وجه الحركات الشعبوية» كما جاء في المقال المذكور، فإن دفاع الرئيس الصيني عن التبادل الحر والعولمة الاقتصادية كما سماها في وجه الحمائية هذه المرة وليس ضد الاشتراكية بصيغها المشتركة، يعكس حقيقة صراعات الهيمنة الاقتصادية على العالم.
أوباما وميركل دعيا إلى «اغتنام الفرصة لإعادة صياغة العولمة لتتماشى مع قيمنا» معترفين بأن العولمة بصيغتها القديمة، السائدة حتى الآن لم تكن عادلة، كما جاء في مقالهما. وجينغ بيانغ دعا إلى ذلك لأجل تقاسم ثمار التنمية بين منظمة تضم دول آسيان، إضافة إلى ست دول أخرى، منها: الصين واليابان ثم لتشكل خطوة أولى نحو منطقة التبادل الحر بين دول آسيا والمحيط الهندي. من هنا يبدو الانقلاب الكبير الذي جاء به انتخاب ترامب وربما تأتي بمثله انتخابات أوروبية لاحقة، أولها الفرنسية مفصلاً ينهي النظام العالمي الجديد الذي أرسيَّ عام 1990 وتركّز على نظام العولمة الاقتصادية والسياسية التي حولت العالم إلى إمبراطورية تتربع على عرشها الولايات المتحدة.
إمبراطورية ربما كانت أقصر إمبراطوريات التاريخ عمراً، فأحاديتها بدأت تهتز منذ حرب يوغسلافيا السابقة. يومها اعتبر الجميع أن هذه الحرب كرّست هيمنة واشنطن على الأطلسي، وهيمنة هذا الأخير على أوروبا الشرقية، إرث الاتحاد السوفييتي المهزوم المتفكك. إلا أن مفكراً رؤيوياً كبيراً كنعوم تشومسكي كتب يومها مقالاً تاريخياً، يقول فيه إن الإمبراطوريات تعيش ثلاث مراحل سماها: قلق البداية، الاستقرار، وخوف النهاية. وأنها في هذه المرحلة الأخيرة تصبح الأكثر عنفاً وتدحرجاً..
هذه السياسة العولمية الآحادية بدت مكلفة جداً للولايات المتحدة، بحيث شكلت عنصراً من عناصر أزمة الإمبراطورية، كما توقع بول كنيدي في كتابه «صعود وسقوط الإمبراطورية» ومثله روجيه غارودي الذي كان يصر في جميع كتاباته على أن أمريكا لن تهزم سياسياً وإنما ستنهار اقتصادياً.
ورأى أمريكيون آخرون، أن الحل يكمن في تخفيض تكفل الولايات المتحدة بنفقات هذه الإمبراطورية المكلفة. بدءاً من تمويل حلف الأطلسي لحماية أوروبا إلى تمويل حمايات أخرى موزعة على أرجاء العالم، وكل ذلك من أموال دافع الضرائب الأمريكي. كما رأت أن فتح الحدود والتبادل الحر المطلق لم يؤد إلا إلى تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وانتقال المصانع إلى التوطين في الخارج (خاصة في دول اليد العاملة الرخيصة) مما سبب ارتفاع منسوب البطالة للأمريكيين. هذا من جهة، أما الأمر الثاني فهو إغراق السوق بالبضائع الصينية الرخيصة التي تحد من منافسة البضائع الأمريكية والأوروبية، خاصة الألمانية. وجاء الحل بنظر هؤلاء بالعودة إلى صيغة الحمائية الانكفائية، وترك الآخرين يدفعون ثمن أتعاب الجيش الأمريكي، وربما المواقف السياسية الأمريكية، ووقف الهجرة وإغلاق الحدود.
هنا برزت مصالح القوى الأخرى، ومنها التي كانت حتى الأمس اشتراكية، فبضاعتها رخيصة ويدها العاملة كذلك وهي غزيرة الإنتاج، قادرة على المنافسة، ولم تغرق نفسها بتبني حماية أحد. فانتقلت كرة الدعوة إلى العولمة والتبادل الحر، إلى الملعب الآسيوي الذي لم يغرق نفسه بأية تكاليف عسكرية أو أية التزامات هيمنة سياسية، واكتفى بالاقتصاد موقع القوة.
واقع يترك لنا نحن العرب أن نتساءل بروية: لقد كان احتلال العراق والهيمنة على الشرق الأوسط العربي نقطة الارتكاز في النظام الدولي المحتضر، فأين سيكون موقعنا في هذا التحول الدولي الكبير نحو نظام دولي جديد؟
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/f300a03a-3447-4c82-84b9-9fdff6cc1203