من يسيطر على الماضي؟

الربيع العربي، 25-06-2016

عام 1948 كتب جورج أورويل: «من يسيطر على الماضي يسيطر على الحاضر ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على المستقبل»، قال ذلك في روايته الرائعة «1984» التي حاول فيها أن يتخيل رجلاً يكتب عام 1984 مذكراته عن خمس وثلاثين سنة مضت.
عام 1948 ضاعت فلسطين بسبب من سيطروا على الماضي وألبسوه روايتهم، وما زلنا من وقتها نحاول أن نصحح الرواية ونقدم الحقيقة، إلى أن ضاعت محاولاتنا في موجة تيار آخر جاء يحاول السيطرة على الماضي ليسيطر على المستقبل.

هو التطرف الذي أسموه الأصوليات تجميلاً، وهو الذي لا يعرف أن يكتب التاريخ إلا بقلم أحمر، هو منطق لا يفهم المنطق وتاريخ لا يفهم التاريخ، ومعاصر يعيش فيما قبل التاريخ والحضارة.
الأهم في هذا كله أن هذه السيطرة على الماضي هي كالأواني المستطرقة، فما من أصولية لا تغذي الثانية والثالثة الخ.. ولا تختلف في آثارها الاجتماعية والوطنية سواء كانت عرقية أم دينية أم مذهبية. فكلها تصادر الإنسان وكلها تصادر الحضارة وتشوه المفاهيم والألفاظ. اختلاط المفاهيم هو الطامة الكبرى في عملية التشويه، فإذا النحن تعني كل شيء إلا المواطنة التي تحفظ حق الجميع بصرف النظر عن العرق والدين واللغة.

السيطرة على الماضي حاولها الكثيرون، إلى أن تمكنت «داعش» من التفوق بامتياز – وربما أراد لها الحشد الإعلامي المقصود أن تبقى كذلك – فمن يدري إن كانت أكثر خطورة من النصرة أو غيرها. بات حلمنا الأول أن نتخلص من هذا الرعب قبل أن يصادر مستقبلنا.

لذا يبدو الجميع فرحين بتقدم ما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية» ضد «داعش»، وربما كان للاختيار بين السيّئ والأكثر سوءاً منطق يدفع كل الأوراق التي لا تناسب الرواية إلى الخرطوم الذي يحولها إلى النار فالرماد، كما كان يفعل بطل رواية أورويل. «سوريا الديمقراطية» اسم اخترعه الأمريكيون علناً، وتحدثوا عن تدريبهم لقواتها علناً. وربما كان لنا أن نقبل بها بصرف النظر عن الأبوة الأمريكية لو أن جماعتها يتحدثون عنها بتلك الصفة. كل الذين نراهم على الشاشات وفي الصحف يتحدثون عن الكرد وعن الإقليم الكردي في سوريا، كما في العراق. لتخرج علينا قيادية منهم وتقول إن الدستور الجديد الذي يقومون بكتابته سيصبح جاهزاً بعد شهرين. ولا نعرف عنه إلا أنه دستور فدرالي.

حسناً الفدرلة نظام عادي تتبعه الولايات المتحدة، روسيا، ألمانيا، سويسرا وحتى الصين بشكل أو بآخر.. ولكن هل سمعنا بإقليم بروتستانتي وآخر كاثوليكي وثالث مسلم في ألمانيا، أو عن ولاية للأفارقة السود وأخرى للآسيويين الصفر وأخرى للأنكلو ساكسون البيض وأخرى للمتوسطيي العرق في الولايات المتحدة. ألا تناضل بريطانيا العظمى ضد استقلال السكوتلنديين والإيرلنديين؟
الغريب أن هذه الدول نفسها هي التي تعمل على تقسيم بلادنا على أساس عرقي ومذهبي وديني. يعيشون ترف المواطنة ويدفعون المال وعصارة الأدمغة والسلاح ليتحقق مخطط الهويات الفرعية المتناحرة لدينا.
لأجل ذلك تعاد قراءة التاريخ بحيث يسيطر القارئ على الماضي كي يتمكن من السيطرة على المستقبل ولا أهمية للمنطق وللحقائق. فنسمع ونقرأ مثلاً، في ذكرى سايكس- بيكو، أن هذه المعاهدة قسمت كردستان إلى سورية وعراقية وتركية وإيرانية.. آخر البدع وأغرب الترهات التي تتحول إلى حقائق. بحيث يُمحى النضال ضد سايكس – بيكو الذي حمّلنا وزره طوال عمرنا، ليحل محله تفسير آخر للنضال ضد سايكس- بيكو يقوم على نقض تلك التجزئة الجغرافية لأجل إحلال تجزئة أسوأ منها بكثير. نعم قسمت سوريا التاريخية أو الطبيعية أو الهلال الخصيب إلى أزرق وأحمر، إلى أربع دول وخامس كيان لا هدف له إلا تحقيق الحلم الصهيوني، ولكن تلك الأجزاء المجزأة تمكنت رغم كل شيء من بناء دولة مدنية، خاصة في سوريا، واليوم نصل (منذ بداية الحرب اللبنانية وحتى الآن) إلى إحياء جميع الحساسيات الفرعية وإضرام النار تحتها حتى الغليان، دون أن يدري أصحابها أن مصير الغليان المحتوم هو التبخر.

ليست المشكلة في وجود التعددية في أي مجتمع وأية دولة وإنما المشكلة هي تحويل هذه التعددية إلى شراذم بيد الأجنبي والمشوه والأصولي بحيث تحل النحن الفئوية مكان النحن الوطنية ويتحول الوطن إلى شركة محاصصة لا يرضى أي شريك فيها بحصته. بل ويعيد تزوير الماضي ليقتطع جزءاً من حصة شريكه. شركة بلا مدير ولا مجلس إدارة ولا حتى مساهمين. تؤدي في النهاية إلى انفصال كل واحد ليفتتح وحده دكاناً صغيراً مرهوناً سلفاً. ويصقل أسنانه لافتراس آخر ما تبقى له، ما فاز به كغنيمة حرب خاضها لأجل غيره.

هكذا تجسد عام 1948 قيام «إسرائيل»، ويتجسد بعد أقل من مئة سنة ضمان بقاء «إسرائيل».

http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/f900e9dd-4d42-4d9b-a659-5291129b18d3

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون