عرفتهما.. وفي المرة الأولى كان الأستاذ غاضباً مني وكان الدبلوماسي مثنياً مهنئاً.. لكن الحالتين لم تستمرا على الحال نفسها.
هيكل كان غاضباً من مضمون رسالة دكتوراه عنه، ترجمتها وعلقت عليها. وأنا سعدت بفرصة التعرف إليه ولو على بداية غاضبة. ففي الوجدان صورة مهنية لصحفي القرن بلا منازع، وصورة وطنية لفلسفة الثورة التي بدأت من الميدان في فلسطين الثامنة والأربعين، واستمرت حتى آخر لحظات الضمير العربي قبل أشهر. أي فرصة ثمينة أن يتاح لك التواصل مع هذه القامة الهائلة ولو لمرات، وأن يقول لك: «بعدما تعرفت إلى ما تكتبين لم أعد غاضباً منك، أنت أستاذة». وهل من أستاذ إلا الأستاذ؟
بطرس غالي كان معجباً بطرحي وإدارتي لطاولة الثقافة في ندوة أقامتها الأكاديمية الدبلوماسية في فيينا، ضمن إطار «الاورو ميد»، وصدرت بعدها جميع أوراق تلك الندوة، في كتاب مشترك، عن وزارة الخارجية النمساوية. يومها فوجئت بإطراء بطرس غالي لطرحي القومي الندي والنقدي في موضوع حوار الحضارات عبر الميديا بكل أشكالها، وقال: «هذا الخطاب الخالي من النفاق ومن الكراهية في آن واحد هو ما يجب اعتماده مع الغرب». لكنني عندما تواصلت فيما بعد معه، كأمين عام للفرانكوفونية، لم أجد أن الاتفاق معه، في العمق سهل. خاصة عندما تناولنا الفرانكوفونية في بعدها الاستعماري، والمتوسطية في بعدها المستوعب ل «إسرائيل». خاصة وأن الصورة القوية الكامنة في الذاكرة هي صورة كاتب خطاب زيارة الكنيست (حتى ولو أن السادات لم يعتمده) وصورة المطبع الليبرالي (حتى ولو كان عبقرياً وبالغ اللطف)، صورة حسنها الموقف التاريخي الذي اتخذه كأمين عام للأمم المتحدة من مجزرة قانا.
أعود إلى الأستاذ – وأفكر بصوت عالٍ بحلم غريب: لو كان من الممكن نسخ أدمغة الناس كما تنسخ ذاكرة الكومبيوتر، ولو كان من الممكن أن تستمر حالات الصعود الكبير من دون السقوط في خطوط الانحدار، ليس الأستاذ من دفن أمس، بل مرحلة عظيمة من تاريخ العرب المعاصر بإحدى تجلياتها في الإعلام والفكر السياسي. مرحلة لا نملك إلا استرجاعها ولا نملك أمام استرجاعها إلا وأن نسأل: أين أصبح الإعلام العربي اليوم، رغم كل المليارات التي تتدفق عليه مما لم يعرفه عصر النهوض الكبير؟
لم يعد الإعلام مساهمة أساسية في قضية أمة، بل أصبح خادماً ذليلاً متبرجاً ( كركوز ) لاقتصاد السوق. لم يعد المتلقي مواطناً يبنيه من مثل هيكل ولو درجات متفاوتة من السلم، بل أصبح المتلقي زبوناً، الشطارة فيمن يستطيع أن يغسل عقله وينفض جيبه ويضع في عنقه قيد الفروض.
لم يعد الإعلام نضال وحدة، بل أصبح دكاكين جزارين يعملون جسدهم في جسد أية عناصر وحدة، ولم يعد حلمنا – القلة المتبقية – أن ننهض بثورة الوحدة والحداثة، بل أن نحاول الوقوف – ما أمكن – في وجه التشظي والدمار.
لم يعد سيد الإعلام هو سيد المشروع الوطني، بل أصبح سادة الإعلام هم سادة العالم الجدد، كما وصف الصحفي الكبير اينياسيو رامونيه، الشركات العابرة للقارات.
لم يعد نجوم الصحافة هم أصحاب «بصراحة» ينتظرها القراء من المحيط إلى الخليج، كما ينتظرون خطاب ناصر، بل تسيد وساد أصحاب اللاصراحة من المنافقين والمتسلقين والمداحين أو الهجائين لحساب….
أن تكون صحافياً كبيراً، يعني أن يحتاج إليك الجميع ولا تحتاج إلا إلى قرائك ومشروعك، هذا ما حاول أن يرسخه الأستاذ. الكبير هو من ينظر في المرآة فيرى نفسه كبيراً، لأنه حين ينظر في قرارة نفسه يعرف حجمه الحقيقي، وأي حجم بلا قرار كان يراه هذا المفكر السياسي والصحفي الكبير! ألم يكن في ذلك جوهر القدرة على الاستمرار طوال رحلته بذاك الذهن المتيقظ الذي أكثر ما أبهرنا كان في سنواته الأخيرة.
كان هرماً، وبنى الأهرام، كما خوفو، ولكن لا لتكون قبراً له بل مرتعاً لكل ما يغذي الحياة.
ذهب الأستاذ مكذباً نظرية: كم من تلميذ فاق معلمه! لم يتفوق عليه أحد بعد. إلا أنها المرحلة؟
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/d53195f7-eb64-4ebd-ab50-8efe516a66b6