«الحمد لله أنني لا أذهب كثيراً إلى باريس» تقول طفلة فرنسية من إحدى المقاطعات الطرفية لمراسل القناة الخامسة الفرنسية. باريس الحلم، ليس لدى أهل الشرق فحسب، بل ولدى كل أوروبي، حتى في الدول الأكثر رقياً. هذا ما يمكن أن يفعله الإرهاب بصورة مكان ما.. مدينة ما.. حضارة ما..
لم يكن لمثلي إلا أن تتألم لمدينة عشت فيها سنوات طويلة من عمري، ولكن ماذا أقول في مدن هي أناي الجريحة؟
من تابع وسائل الإعلام الفرنسية خلال الأسبوع المنصرم لاحظ مستوى الهلع لدى الفرنسيين والأوروبيين عامة، وأشفق بالدرجة الأولى على الجالية العربية التي سيجد كل واحد فيها نفسه في موضع المتهم، حتى ولو كان مفكراً مرموقاً تستضيفه شاشة التلفزيون في ندوة سويسرية حول إمكانية وصول هذا الخطر إلى جنيف.
كان يتقن الفرنسية أفضل من الضيوف الأربعة الآخرين، ويتبنى خطاباً معتدلاً كل ما يريد أن يقوله بمستوى فكري راق: نحن لسنا كلنا إرهابيين. لم يعط إلا مساحة قليلة من الحوار، لكن الكاميرا كانت تركز على سحنته السمراء وشعره الأجعد ويمناه التي تلعب طوال الوقت بدبلة إصبعه اليسرى في دلالة سيميولوجية على التوتر. لا يجرؤ هذا الرجل على القول: هل كنتم تتوقعون أن من اللعب بالنار إلا يحرق الأصابع؟
هل يذكر رئيس الوزراء مانويل فالس قوله لوسائل الإعلام، قبل عامين: لا أستطيع أن أمنع شاباً قرر أن يذهب لقتال الديكتاتورية؟ لقد عاد هذا الشاب ليضرب دولة ديمقراطية. لكن رئيس الوزراء الشاب لم يتحدث في حواره مع التلفزيون الفرنسي إلا عن تعزيز الاستخبارات وإجراءات الأمن وخمسة آلاف شرطي إضافي من دون أي مراجعة للأسباب ومعالجتها.
هل يذكر لوران فابيوس، وزير الخارجية تصريحه للإعلام أيضاً في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2012: «ميدانياً، تقوم جبهة النصرة بعمل جيد» أي عمل بشع قام به الإرهاب في الميدان الفرنسي !
هل كان للضيف الذي يحمل اسم محمود أن يذكر المشاهدين بما كتبه جان بيير شفينمان عام 1991 في كتابه «فكرة معينة عن الجمهورية قادتني إلى…» من أن كسر العراق سيؤدي إلى تنامي الكراهية، وتنامي المجموعات الأصولية الإرهابية، على الضفة الشرقية للمتوسط فيما لن يتأخر عن العبور إلى الضفة الغربية منه؟
هل كان له أن يذكّر بما كتبه دومينيك دو فيلوبان قبل وبعد أن يصبح رئيساً للوزراء عن مسألة الحوار بين الضفتين وعن شطط السياسة الفرنسية إزاء العرب (أو ما تسميه الديغولية السياسة العربية)؟ خاصة وأن دوفيلوبان عاد بالأمس، وبوفاء ديغولي، ليصرح بأنّه على فرنسا أن تستعيد دوراً متوازناً، خاصة في الشأن السوري، بغية تكريس ظروف الحل السياسي في سوريا. من دون أن ينسى التذكير بشطط السياسة الفرنسية منذ أفغانستان، العراق، ليبيا، وغيرها، بحسب قوله الذي مضى حد الدعوة إلى الحوار مع نظام الرئيس الأسد.
الرجلان الرؤيويان قياديان (وزير دفاع ومرشح للرئاسة – وزير خارجية ورئيس وزراء) لكنهما ليسا الوحيدين في موقفيهما. الدوائر السياسية والإعلامية عكست لنا على مدى أسبوع التجرؤ غير العادي على انتقاد السياسات الخارجية للرئيس والحكومة، واعترفت بميركانتيليتها، وقصر نظرها، بل ومضت، تكراراً، في سابقة غير مألوفة على تسمية دول بالاسم وإدانة التحالف معها لأسباب مالية بحتة. ارتفع الصوت النقدي وارتفعت الأصوات التي لا يتسع لها مقال للحديث عن استهداف الصيغة التعددية لفرنسا، واستهداف القيم الفرنسية، فيما ذكّرنا بحديث بوش والأوساط الأمريكية غداة 11 سبتمبر.
يذكرنا بهذا الحدث التاريخي أيضاً التعديلات القانونية التي تشبه (الباتريوت آكت) الذي أقر في الولايات المتحدة حينها.
لتبقى الأسئلة:
إذا كان لهذا التيار المعتدل وجود قوي في فرنسا وأوروبا رأيناه بعد العملية الإرهابية، كما رأيناه عام 2003 بشأن الحرب على العراق، فلماذا لا يستطيع أن يكون فعّالاً؟ وهل تكفي دماء 13 نوفمبر لتفسح له المجال؟ مجال الكلام أم القرار؟ القرار الذي يظل محكوماً باللوبيهات الداخلية، خاصة المالية واليهودية والارتباطات الخارجية المالية والعسكرية الأطلسية؟ وهل سيحول مجرى آثار هذه الهزّة لخدمة هذه اللوبيهات؟
من الذي له مصلحة في إضعاف أوروبا بهذا القدر المذهل؟ وهل يكفي أن يسترجع فالس جذوره الإسبانية ليدافع عن تشينغن؟
من الذي له مصلحة في تراجع الحريات والديمقراطية بهذا التطاول القانوني؟ وهل يكفي أن يبالغ رئيس الوزراء في شكر المجلس الذي وافق على قانون الطوارىء؟
هل يعترف الغرب عملياً بأنه إذا تعارض الأمن مع الحريات، دفعت الثانية الثمن؟ أم أن الثمن هو المقصود من التعارض؟
لقد فصّل بنيامين نتنياهو في كتابه «استئصال الإرهاب»، عام 1993 كيف استعملت الاستراتيجية «الإسرائيلية» قضية الإرهاب لإقناع الولايات المتحدة بالتضييق على الحريات. وتفاخر بأنه وموشيه أرينز كانا عرّابي ذلك السعي. كما فصّل في الكتاب نفسه ضرورة القضاء على الدولة في العراق وليبيا وسوريا وحشر المقاومة الفلسطينية فيما أسماه جيب غزة.
اليوم تصرخ «إسرائيل» برفع قضية على المجموعة الأوروبية لأنها تحظر بضائع المستوطنات، علما أن قانون الحظر هذا سار منذ ما قبل «الربيع العربي». وغداً سيجعل إعلام «إسرائيل» من كل عمل مقاومة في الأرض المحتلة شبيها بعمليات باريس.
ثم ما قصة الجوازات المستعصية على الحرائق والانفجارات، من منهاتن إلى شارلي إيبدو إلى 13 نوفمبر؟ ما قصة الفيلم الوثائقي الذي بثه التلفزيون الفرنسي مساء الخميس، عن الملتحقين بداعش في سوريا والعراق، وقال إن تحضيره استغرق تسعة أشهر ؟
أخيراً، إذا كانت كل التحولات تقود إلى موقف إجماعي ضد داعش أشبه بالصراخ الخارق لجدار الصوت الذي سمعناه قبل أفغانستان. فهل داعش هي القوة الإرهابية الوحيدة؟ بل وماذا بعد داعش؟