لعل السؤال الاكثر الحاحا في المرحلة الراهنة، هو السؤال حول ما اذا كانت الحرب قادة على المنطقة ام لا. خاصة بعد المناورات الاسرائيلية الاخيرة. حيث يرى البعض انها اجراء ردعي اكثر منه موجه نحو الحرب، في حين يرى البعض الاخر انه مقدمة، بروفة للحرب لا اكثر ولا اقل.
واذ يراهن الكثيرون على التحول الذي حصل في الفكر الهيوني منذ السبعينات، اي بعد حرب العبور، تحول لا تغير فيه شيئا الحرب الاخيرة ضد لبنان، حيث ان اسرائيل اضطرت اليها بضغط الولايات المتحدة الاميركية التي كانت تريد ان تعطي دفعة لمشروع الشرق الاوسط الجديد، دفعا يغطي على فشلها في العراق. فان هذه المراهنة تغفل امرا مهما في الستراتيجية الاسرائيلية، الا وهو تعويض الانتصارات العسكرية بانتصارات سيا سية.
ولمن يراقب المسيرة منذ اخر انتصار عسكري اسرائيلي، في عام 1967، فانه يرى ان التحول نحو الحلول السلمية بدا فعلا في السبعينات خارج اسرائيل لا في داخلها، وكنتيجة للهزيمة الاولى في حرب تشرين. عندها بدا جناح في الحركة الصهيونية وفي اللوبيهات اليهودية العالمية يسوق لرؤية مفادها ان تحقيق اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات وما يقتضيه من تهويد للمنطقة يمكن ان يتم بطريقة غير الطريقة العسكرية، والحروب. حيث يمكن للتهويد الاقتصادي والثقافي ان يحقق الهدف دون التسبب في خسارة ارواح يهودية.
كان رائد هذه الدعوة في حينه الحاخام المر برغر الذي قام بجولة في المنطقة للتسويق لهذه النظرية تحت عنوان: معارضة الحرب. يومها صفق له الكثيرون من العرب حتى في الاوساط النضالية نفسها، باعتبار انه رجل دين يهودي يعارض الحرب. رمى اليهم ب ” لا اله !” واحتفظ ب: ” الا الله” فصدقوا الجزء الاول ولم ينتبهوا الى الثاني. كان المفصل التاريخي الذي اسس لذلك التحول هو حرب ال 73. حيث ادرك دهاقنة الصهيونية وحكمائها انه اذا لم يتم امتصاص هذا الانتصار العربي العسكري بانتصار سياسي اسرائيلي، يبدا تحقق مقولة بن غوريون بان اسرائيل تسير نحو نهايتها اذا خسرت حربا واحدة. وبالفعل كانت كامب ديفيد وزحف التطبيع والتهويد، ليس على مصر فحسب وانما على الدول العربية الاخرى ايضا. ففشل هنا ونجح هناك، واذا لم يكن ممكنا انكار ما حققه من نجاحات،خاصة بعد احتلال العراق، فانه لا يمكن ايضا التنكر لما يشهده من مقاومة قبل هذا الاحتلال وبعده.
غير ان سيرورة التهويد السلمي هذا تعرضت لنكسات كبيرة اضطرتها للعودة الى الحرب اكثر من مرة: مرة لاخراج منظمة التحرير من لبنان، تمهيدا لجرها الى اوسلو، وذاك خيار لم يكن منه بد لبقاء اسرائيل، ومرة لقمع الانتفاضتين الفلسطينيتين، ومرة لقمع المقاومة اللبنانية. وبنظرة موضوعية الى هذه المفاصل الثلاث نرى ان اسرائيل لم تحقق في اي منها انتصارا عسكريا رغم كل ما سببته من دمار وضحايا، لكنها عادت في كل مرة فامتصت هزيمتها العسكرية بانتصار ديبلوماسي. مما يؤكد على صحة نظرية الحكماء الذين ارادوا التهويد السلمي.
هذا التهويد السلمي هو مضمون رؤية السلام مع الفلسطينيين والعرب، وهو ما ترجم اقتصاديا بنظرية الشرق اوسطية التي بلورها شيمون بيريز. وها نحن نراه ا ليوم على راس الدولة العبرية.
غير ان هذا لا يمنع ابدا حصول حروب بالوكالة تدمر كل قلاع الرفض، وكل احتمالات المقاومة في وجه الهيمنة الاسرائيلية، واهم هذه الحروب، تلك التي خاضتها الولايات المتحدة ( بل والعالم كله في الجولة الاولى ) لتدمير الخطر الاكبر في وجه المشروع الصهيوني، العراق. في خطوة لعلها الاهم في تاريخ هذا المشروع.
لكن خطرا اخر لم يكن في الحسبان يجعل اسرائيل الان امام خيارين لا ثالث لهما: اما ان تستطيع امتصاص خسارتها العسكرية امام المقاومة اللبنانية، بتحقيق انتصار سياسي جديد من وزن كامب ديفيد، واما خوض حرب جديدة. طالما انها غير مستعدة وغير قادرة على التسليم بحقوق الفلسطينيين والعرب. وطالما انها لا تستطيع توريط الاميركيين او غيرهم في حرب بالانابة.