لم يكن رفيق الحريري رجلا نموذجيا، لا ولا هو ملاك سياسة واقتصاد. لكنه باي حال كان كسرا للتقليد اللبناني الرجعي. فهذا الرجل الذي خرج من اسرة شبه فقيرة، ومن عائلة غير معروفة ( والعائلة هنا بالتعبير اللبناني الذي يعني تقريبا العشيرة ) ومن خط قومي عربي، هو كسر للتقليد السياسي. صحيح ان الكثيرين من امثاله يتعاطون السياسة الحزبية والعقائدية، لكن كراسي الحكم في لبنان ظلت، ومنذ الحكم العثماني محصورة بعائلات اقطاعية كبيرة، موزعة على الطوائف اللبنانية،مشكلة سدا لا يمكن اختراقه. وبذا لم يكن الخط السياسي هو الذي يحدد المرشح وشريحة الناخبين، بل العكس تماما فالمرشح ” الزعيم ” هو الذي يختار صفه وسياسته، ويتبعه فيها ناخبوه الذين هم افراد عشيرته ومن حولهم، ينتقلون حيث يشاء هو الانتقال. بل انواعا من المقايضات المخزية كانت تحصل بين المرشحين ( قرية شيعية تابعة لال حماده في قضاء مسيحي، وقرية مسيحية تابعة لال حرب في الهرمل، يقايض بهما مرشحي العائلتين او مفاتيحهما، في حين يجلس ناخبوهما في انتظار الايعاز لمن يصوتون ).
هذه هي الديمقراطية التي يتغزل بها الكثيرون ويتباهى بها اللبنانيون.
الحريري لم تكن له عائلة، ورغم التزامه بالدور السني الا انه فتح دائرته على كل الطوائف عبر الاقتصاد والسياسة والتعليم والاعلام والثقافة. وتمكن بذلك، وبقوته المالية والاقتصادية اولا ان يتصدر المشهد السياسي متقدما على كل امراء الاقطاع وامراء الحرب ( ولا فارق كبير بين الاثنين )
هناايضا ياتي الاختلاف الاخر: وحده لم يكن امير حرب، بل كان مهاجرا خلالها، وعاد ومعه السلم. لم يرث الحريري لقب شيخ او بيك كما حال الاخرين، ولم يحمل لقب امير حرب كما هو حال الكثيرين. لذا كان قادرا على ان يكون جسرا بين الجميع، ولذا كان لابد من ازاحته في وقت مطلوب فيه نسف الجسور لاعادة البلد الى حالة القطيعة والى حالة التوزيع الطائفي العوائلي المطلوبين للمرحلة القادمة.الى حالةالطموحات الاقتصادية المحدودة،وغياب الطموحات السياسية التي تتجاوز حدود لبنان.
مع ازاحته ازدهر حلم المارونية السياسية باستعادة الهيمنة، وانتعش حلم وليد جنبلاط بالدولة الدرزية، مما يفسر مزايدته على الجميع في التطرف بكل ما يريده الغرب واسرائيل. بل انه ربما قدم لهذه الاخيرة، بطرحه الدرزي هذا، حلا لمعضلة الجولان الذي لن تستطيع الا وان تنسحب منه ولاتريد ان تعيده الى سوريا.
وفي حين يجد اشيعة المهددين اساسا بحكم احتضانهم للمقاومة دعما من ايران، او انهم بالاحرى يشكلون بدورهم دعما لايران المهددة بضربة اسرائيلية، فان السنة يجدون انفسهم مستهدفين ومهمشين، خاصة مع ما حصل لهم في العراق. وربما لانهم يشكلون امتدادا لسنة العراق اي للمقاومة.
في ظل هذا الوضع المركب، وفي غياب الاحزاب السياسية الفاعلة، يتوزع اللبنانيون من جديد، طوائف تفتت الوطن وتحوله من ساحة الى شبكة، الى رقع جلد نمر. مع تشكل حالة سيكولوجية بالغة الخطورة: بين حالم بكيان تفتيتي تجميعي اخر غير الوطن، يجد الان فرصته فيتوثب لتحقيق حلمه ولو يثمن الخيانة، و بين شاعر بالخطر من هنا او من هناك، خطر التصفية او خطر التهميش. حالة لا تترك لاحد مجال العمل على اساس المصلحة الوطنية، وفي سبيل حمايتها. حالة سيدخل بها لبنان المفاوضات القادمة مع اسرائيل، وبمسار منفصل عن السوري….