ألقيت ضمن مؤتمر علمي لمدة ثلاثة أيام حول موضوع إدماج المهاجرين بين دعوات التطرّف وحقوق الإنسان، الأكاديمية الدبلوماسية، فينا، 2005
الفضائيات العربية ومسيرة الاندماج في المجتمعات الغربية (فيينا)
حلم كبير هو ذلك الذي راود ماك لوهان مع بداية القرن الماضي ، حلم تحول العالم الى قرية كونية واحدة. يطير فيها التواصل على اجنحة وسائل الاتصال، وتتحول هذه الوسائل بالتالي الى شرايين واوردة في دورة دموية واحدة تنشط الجسم الانساني وتمنحه حرارة وحيوية. مثله حلم دعاة التواصل والتبادل في ان يؤدي انفتاح الثقافات عبر الاعلام ، الى ارتقاء بالانسانية حيث يطرد الجيد السيء.
وحين تشكلت مجتمعات الكرة الارضية كلها من خليط هجرات منها ما مر ومنها ما استقر، لتتفاعل فيما بينها ومع بيئتها مشكلة تلك الوحدة الثقافية الاجتماعية التي ترسم لنفسها عبر التاريخ خطا فكريا مميزا. كان التواصل، لا الانعزال هو ما اغنى الخصوصية الثقافية بمنحها تجددا وانفتاحا وبعدا انسانيا.
واليوم اذ تبلغ وسائل الاتصال الجماهيري افقا من الانفتاح تتحطم امامه كل القيود والحدود والسدود، اذ تحل السماء المستعصية على القطيعة محل ساحة التبادل على الارض، يطرح من جديد السؤال حول دور وسائل الاتصال في تسهيل اندماج المهاجرين او في اعاقته.
اذا كان القرن العشرين قد انتهى قبل نهايته الحقيقية بعشر سنوات، كما يقول البروفسور فرانسيس بال، وذلك بسقوط جدار برلين، ومن ثم انهيار الكتلة الاشتراكية، مما وجد ترجمته الكبيرة عبر انفجار اعلامي، فان القرن الجديد، قد ولد مع النظام العالمي الجديد على سرير العالم العربي منذ الحرب الاولى على العراق عام 1991 ليجد ترجمته الاعلامية الابلغ على ساحة الاعلام العربي، مع الثورة التلفزيونية الفضائية.
مما يطرح السؤال الكبير عن التغيير الذي ستحدثه هذه الظاهرة الاعلامية على ساحتين، ساحة الوطن العربي، والساحة الدولية التي تحتضن كمّا من الجاليات العربية المهاجرة.
بهذا الشق الثاني سنحصر حديثنا هذه الليلة، ولكن لا بد من استعراض تاريخي بسيط، يضع السؤال في سياقه التاريخي الذي لايمكن فهم اية ظاهرة بدونه.
اولا – العرب و الهجرة والاعلام
ركاب بحر، ام جوابو صحراء، بحارة ام خيالة، كان العرب دائما شعب هجرة .يقودهم طموح تجارة او حلم فتوحات، لكن هذه الهجرة اقترنت عندهم ايضا بالتملص من القمع. ولا غرابة ان يكون الرسولان اللذان حملا الدين الى معظم ارجاء الانسانية، وقد ولدا في العالم العربي، قد لجا الى الهجرة هربا من الاضهاد. ولكن ليعودا بعد ان يشتد عودهما. الم تكن وسائل الاتصال المتاحة في ذلك العصر وسيلتهما لتصليب هذا العود ولاكتساب الراي العام؟
1- استعراض تاريخي: الهجرات و الانعكاس الاعلامي .
أ- بداية القرن: هجرة داخلية -الحرية (مصر)
هجرة خارجية: الفقر والقمع (المهجر الاميركي)
في العصر الحديث ، وعندما اصاب الامبراطورية العثمانية ما يصيب جميع الامبراطوريات حينما يصيبها خوف النهاية ، فراحت تثقل رعاياها بالفقر والقمع ، الذين بلغا مع مرحلة تركيا الفتاة حدا اسطوريا ، كان المخرج الذي وجده شباب سوريا الطبيعية امامهم هو الهجرة ، الهجرة بحثا عن حلين لمعضلتين مختلفتين .
لذلك اتجهت اتجاهين مختلفين : داخلي عربي ، وخارجي اميركي في معظمه .
الى مصر اتجه عدد غفير من المثقفين والسياسيين العرب ، من صحافيين وكتاب وفنانين ومناضلين بحثا عن مناخ حرية كانت بلاد النيل تنعم به من دون سائر الوطن العربي ، لتمتعها بوضع خاص في ظل الامبراطورية .
وفي هذا المناخ تفتح الادب وفيه خليل مطران ومي زيادة وجرجي زيدان وتفتحت الفنون وفيها بديعة مصابني وماري كويني واسمهان وفريد الاطرش ونور الهدى وعشرات غيرهم ولكن ايضا ازدهرت الصحافة ودور النشر ليؤسس الاخوان ….. الاهرام وليؤسس….. الهلال ..الخ … ولتصبح القاهرة الرئة التي يتنفس منها الابداع والاعلام العربيين .
باتجاه اخر خرجت السفن تحمل المسافرين ، اعدادا كبيرة قال لها البحر ان وراءه علاجا ليس للحرية فقط وانما للفقر ايضا . وكان ذاك الانتقال شبه الجماعي الى المغترب الاميركي بجنوبه وشماله ، ليشكل الجاليات الكبرى التي لم تتاخر ، الى جانب تجارتها ، عن ان تؤسس عددا كبيرا من الصحف والمجلات التي منها ما ظل في عالم الاغتراب ومنها ما عاد الى الوطن وشكل نواة مؤسساته الكبرى بعد الاستقلالات.
تشكل كان مواكبا للظاهرة الكبرى في مجال الادب ، تلك التي اعطتنا قائمة الابداعات الكبيرة المنضوية تحت عنوان الادب المهجري.
ظاهرة الهجرة بحثا عن فضاءات الحرية وعن رخاء عيش استمرت دون شك ، مع انتصاب الانظمة العربية القمعية المزروعة في صحاري البؤس العربي ، لكن – وبموضوعية – دون ان يعني ذلك ان كل مهاجر هو بطل نضال لاجل الحرية والتقدم ، حتى ولو احب الكثيرون ارتداء هذا القناع . فكم منهم يسيرون وهم يخفون وراءه يد متسول وصولي منتهى حلمها الوصول الى تلك الانظمة نفسها ، خاصة السخي منها . او الوصول الى خدمة جهات واجهزة في بلد الاقامة ، وصولا لا علاقة له بواجب الانتماء الى الوطن الجديد اوالوفاء لكرم الضيافة .
ملاحظة ربما يكون ما حرضها في الذهن ، مراقبة الواقع ، والتفكير بظاهرة الصحافة المهاجرة .
ب- الحرب اللبنانية : الصحافة المهاجرة :
كما كانت مصر في مطلع القرن رئة ، اصبحت بيروت وساحاتها الاعلامية بشكل خاص ، منذ الاربعينات ، وظلت كذلك حتى اندلاع الحرب الاهلية عام 1975 . ولان الحرب كانت تستهدف لبنان الحضارة قبل أي شيء اخر ، فقد طال عنفها المجرم صحافته وحرية كلمته بشكل قاس ، مما جعل الكثير من الصحف والمجلات تهرب الى الخارج ، خاصة الى الخارج الاوروبي .بحثا ، مرة اخرى عن فضاء الحرية .
لكن فيما وراء الحجة الظاهرة ، والتي تبدو مقنعة يلح السؤال : الم تكن الصحف الاخرى التي اصرت على البقاء مستهدفة هي الاخرى ؟ الم تتعرض السفير مثلا لاكثر من محاولة تضييق وتفجير ؟ فلماذا ظلت في مكانها ، تخوض معركتها مع ناسها ؟ وبالتالي حرية ماذا هي تلك التي خرجت الصحافة المهاجرة تبحث عنها ، وهي التي ارتبط كل منها بنظام عربي يغدق عليها المال فتطبل له وتزمر ، وتشتم خصومه من الانظمة الاخرى ؟
أي دور قامت به بالتالي ازاء الوطن الذي ابتعدت عنه ، وازاء الجاليات العربية التي انتقلت الى الاقامة بينها ؟
هل ابالغ اذا قلت انه دور تخريبي على الصعيدين ، وانتم تعرفون كيف كانت كل من هذه الوسائل تجند الصحافيين المهاجرين العاملين معها سماسرة وهتافين اين منهم امثالهم من المقيمين . واقول امثالهم لان الكثيرين من المقيمين ، يعيشون معركة حقيقية يومية مع السلطة بل والسلطات التي يتبع لها الكثيرون من المهاجرين .
اذن . لم تقدم الصحافة المهاجرة اضافة لما هو الحال عليه في الداخل ، بل عهرت قطاعا كبيرا من العاملين في الاعلام او من مسوقي الاعلام ، من الذين يسميهم الوسط الصحافي ، “حملة الشنطة” وللشنطة اغراء اضافي عندما تاتي من عاصمة غربية .
من جانب اخر ، مهني ، الصحافة المهاجرة لم تصدر الا باللغة العربية ، وبالتالي ظل جمهورها هو هو في العالم العربي ، خاصة ان كونها صحافة مقروءة يجعلها عاجزة عن اختراق الامية اللغوية لدى قطاع كبير من المهاجرين ( خاصة الجيلين الثاني والثالث ، وغالبية افراده قادرون على الفهم ولكن ليس على القراءة )
مما يفسر بالتالي خلو الصحف المهاجرة بشكل شبه كامل من القضايا التي تطال الجاليات المهاجرة .
لكنه تفسير لا يجوز ان يغفل قصورا اساسيا ، هو قصور الفكر الستراتيجي السياسي والاعلامي العربي عن ادراك اهمية القوة التي يمكن ان تشكلها الدياسبورا العربية في الغرب ، كظهير وكجسر.
الفضائيات العربية منذ العقد الاخير من القرن العشرين:
بدءا من تجاوز حاجز الامية اللغوية هذا باحلال السمع والصورة محل القراءة ، تمكنت وسيلة الاتصال الجماهيرية الجديدة ، من الوصول الى كل شرائح الجاليات العربية المهاجرة ، لتجد هذه الجاليات نفسها ، فجاة على صلة يومية بكل ما يمت الى الوطن الام ، في حالة تدفق قد لا تخلو من بعض الارباك نتيجة المعادلة الهائلة بين حرمان مطلق ، واغراق غير عادي . لكانهم يمارسون كل يوم رحلة عودة تستمر ساعات الى كل ما في بلادهم وحضارتهم وحياتهم ، ليس فقط عبر الاخبار وانما ايضا عبر المسلسلات والبرامج .
هذه الاستعادة، هل ستشكل امة اخرى لا هي كالعرب المقيمين، ولا هي كشعوب دول مكان الاقامة؟
هل ستعيق سيرورة الاندماج في مجتمعات الهجرة، خاصة بالنسبة لدرجة الجيل الذي يعتبر علم الاجتماع انه قد بلغ مرحلة الانتماء الكامل؟
هل الفضائيات العربية هي كما يقول هنتنغتون في كتابه الاخير “من نحن؟ تحديات الهوية الاميركية” خطر على الهوية الاميركية، كما على سواها – قياسا – من فرنسية والمانية ونمساوية الخ…؟
ام ان نظرية صاحب “صدام الحضارات لا تنطبق الا على رؤيته للعلاقة بين المجتمعات والحضارات، رؤية يقيمها على اساس ديني، اسلامي- مسيحي، في ثنائية صراع وصدام، يعتبره ضروريا للحفاظ على الهوية الاميركية، التي يرى انها لا تتحدد الا بالعدو الموازي، وهو في المرحلة الحالية، الاسلام؟ وذاك ما يطبقه قياسا على جميع الهويات الاخرى.
وماذا عن العرب من غيرالمسلمين، وعن المسلمين من غير العرب في هذه الحالة؟
ماذا عن الاوروبيين والاميركيين المسلمين؟
وصولا الى سؤال كبير: اهما اللغة والدين ما يشكل الامم؟ ما يشكل الحضارة؟ ام انهما عنصران من عناصر كثيرة تشكلهما؟
ثانيا – الفضاء الجيولغوي والفضاء المجتمعي الحضاري
Espace géolinguistique et espace nation– civilisation
1- الفضاء الجيولغوي:
مصطلح جديد ادخله علم وسائل الاتصال على علم الجغرافيا، فكما نقول بالجغرافيا السياسية، مثلا نقول الان في سياق اخر بالجغرافيا اللغوية، والمقصود بها ان الاعلام يخلق فضاء امتداده امتداد جمهور المتلقين، واللغة هي التي تحدد عملية التلقي هذه. فنقول بفضاء اسباني ، وفضاء انكليزي وفضاء فرنسي الخ… هكذا فان الذين يتلقون الفضائيات العربية، هم جميع القادرين على فهم اللغة العربية حتى ولو لم يكونوا عربا، او لم يكونوا ينتمون الى مجتمعات عربية. من هنا ينشا تداخل شبه معقد من الناحية الثقافية، ومما ينتج عن تشكل وتحديد الانتماء الثقافي من تاثير على الانتماء وبالتالي على النسيج الوطنيين.
لكن انسان اليوم، وفي اغلب المجتمعات يمتلك اكثر من لغة، اثنتين او ثلاث وربما اكثر لدى النخب، اذن فاية شبكة من التداخل ترسمها هذه الحالة ؟ وكيف يمكن ان نرسم دوائر الفضاءات اللغوية عندها؟
وهل تصبح، بذلك معرفة اللغات، باب انفتاح انساني يعزز روافد نهر الحضارة البشرية، ام مصدر اختلاط وبلبلة، يعيقان السلام الاهلي الناتج عن التشكل الاجتماعي الصحيح الذي يفترض بدوره اندماج كافة الشرائح المكونة للمجتمع؟
2– الفضاء الجغرافي المجتمعي. (اي مفهوم للمجتمع؟ تفاعل الناس ضمن بيئة جغرافية محددة، خط حضاري محدد، تطرا عليه عوامل جديدة لكنها لا تلغيه، تطور لا احلال.)
الجواب على السؤال المطروح اعلاه، يبدا من تحديد مفهوم المجتمع والدولة، وبالتالي مفهوم الهوية والثقافة الوطنية.
فاذا اعتبرنا ان المجتمع حالة منتهية التكوين، جامدة ومحنطة، كان الجواب شيئا، واذا ما اعتبرنا ان المجتمع حالة صيرورة مستمرة وابدية، تشكلت منذ بدء التاريخ من عناصر مختلفة ، كلما اضيف اليها عنصر جديد اضاف اليها واضافت اليه، اندمج بها كما السكر في الماء، تذوبه ويغير طعمها، كان الجواب شيئا اخر.
غير ان ذلك لا يلغي حقيقتين علميتين تاريخيتين:
الاولى، ان مجتمعات العالم كلها، لم تعد في طور التشكل البدائي، بمعنى انها تجاوزت المرحلة التي كانت تكون فيها ملامحها وشخصيتها، الى مرحلة اصبح لكل منها فيها خطه الفكري الواضح وخصوصيته الثقافية التي تميزه عن الاخر، بمعنى الاختلاف والتنوع لا بمعنى الافضلية.
وعليه فانه من الطبيعي ان يتطبع العنصر الوارد، اكثر مما يطبع، ان تكون عملية اندماجه عملية ذوبان حقيقي في الخط الثقافي الفكري لبيئته الجديدة، على ان لا يعني ذلك اطلاقا اية قسرية او اجبار، او أي تعد على احترام القناعات والخيارات، خاصة ما يتعلق منها بايمان الانسان بقيمه الخاصة، دينية كانت ام غير دينية.
بذا تكون العملية لدى الطرفين – وان بنسبة متفاوتة – عملية تطور وتطوير لا عملية احلال.
المجتمع يتطور نتيجة اضافة لون جديد الى مزيج الوانه، والفرد او المجموعة المهاجرة تتطور نتيجة اضافة دخول لونها في خلطة الوان اخرى.
غير اننا اذ نطرح ذلك من باب المثالية النظرية، لا بد وان نعترف بان تطبيقها هو امر اكثر تعقيدا وصعوبة، تعقيد قد يعود الى عوامل واقعية، تاريخية، سيكولوجية جمعية او فردية، اقتصادية، وثقافية. عوامل اذا ما نقلناها الى واقع الهجرات العربية الى اوروبا وجدنا انفسنا امام التالي:
ثالثا – مصادر نشوء التعدد ، واقعه الاجتماعي والسيكولوجي:
اول اسئلة هذا الواقع يتعلق بمصدر هذه الهجرات ، والمقصود بالمصدر هنا، الدافع، الخيار. هل كانت الهجرة خيارا لغالبية افراد هذه الجاليات ، ام انها جاءت فرضا قاسيا قمعيا وقسريا؟
1- الهجرات او الاتحادات والتشكلات الجديدة.
بين الارادية والقسرية: أ
ببساطة مطلقة ثمة كائن بشري يقرر ان يهاجر ، ان ينتقل الى الحياة في بيئة اخرى دون ان يكون لديه ما يجبره على ذلك، وثمة هجرات تمثل حالة قسرية جبرية للافراد كما للجماعات، وتتوزع هذه القسرية في الحالة العربية على مستويين:
– قسرية جمعية ناجمة عن المرحلة الكولونيالية الاوروبية، سواء بسببية مباشرة كما في حال الحركي في فرنسا، او بسببية غير مباشرة حيث ان الكولونيالية خلقت في الدول المستعمرة وضعا من الفقر والتخلف والقمع الذي دفع بمواطنيها الى الهجرة الكثيفة الى دول الاستعمار السابق.
دون ان ننسى القسرية الجمعية الكبرى، والاستثنائية التي تمثلها حالة اللاجئين الفلسطينيين الذين لم تتعرض بلادهم لاحتلال فقط، وانما لمصادرة واحلال وحرمان من أي حق في العودة.
– وقسرية فردية لا تنفصل في جوهرها عن الاولى، ذاك ان المقصود بها هم اولئك الافراد الذين قرروا ويقررون بشكل متواصل الخروج من بلدانهم العربية، الى ديار الاغتراب اما هربا من سجن واما من ملاحقات اجهزة امنية، ملاحقات تتنوع من الاستجوابات الى التعذيب الى مصادرة الجوازات والمنع من السفر الى المنع من العمل والتجويع ، الى كم الافواه وغل الايدي. او هربا من فقر وضيق عيش وبطالة وبؤس، تشهد عليهم الصحارى ومخازن السفن المخصصة للحيوانات ومعسكرات الاذلال على هذه الحدود وتلك.
هؤلاء لم يهربوا الا من حالة هي نتاج انظمة وضعها المستعمر قبل ان يذهب وتركها حارسا امينا على سجون كبيرة، واقطاعيات كبيرة لا يترك فيها السّلم الاقطاعي للناس الا الفقر والظلم. وهم يدركون انه سلّم متدرج من الاجنبي الى الحاكم الفرد الى اصحاب الفرمانات المتسلسلة في خدمته. كما يدركون ان بقاء هذه الانظمة لم يكن ممكنا الا بضمانة السيد الاكبر، الاجنبي، وحمايته.هذه الحماية التي تاصلت وتجذرت بفعل انتشار الفساد السياسي والاقتصادي. هذا الفسشاد المرتبط بدوره بسلسلة دولية من التبعية، ومن تواطوء راس المال المحلي المتماهي مع السلطة مع راس المال الاجنبي، على حساب الوطن والمواطن المتروك لتخلفه وبؤسه.
لنجد عالما عربيا يسجل نسبة 60 بالمئة من الامية في بلد عرف اول الجامعات في العالم، وفي ظل من يدعي انه خليفة رسول بدا كتابه بكلمة اقرا ، واوصى بطلب العم ولو في الصين. كما نجد شعبا 30 بالمئة منه يعيشون تحت خط الفقر وفق تقارير المنظمات الدولية، في حين تبلغ الثروة الشخصية لملكه مليارات تتجاوز بكثير قيمة ديون البلد، او نجد مواطنا تتراجع نسبة دخله الى 300 دولار في السنة، في حين تتضخم ثروات الطبقة الحاكمة فيه بشكل خرافي.
غير ان السوريالية تبلغ القمة عندما تمتدح الادارة الاميركية، والدول الاوروبية ديمقراطية نظام معروف بانه من الاكثر بوليسية وقمعية في العالم العربي، بحيث ينتشر ضحاياه الهاربين على امتداد دول اوروبا . ذلك في حين لا يستفيق الضمير الديمقراطي الغربي على قمع زعيم عربي الا اذا قصر في تامين مصالح الغرب في نهب بلاده، او تقاعس في تلبية الشروط الاسرائيلية.
هكذا تتشكل السيكولوجية المهاجرة من عناصر بالغة التعقيد، الذي يبلغ حد الشيزوفرينيا، وحد المركبات المزدوجة المتناقضة في ان واحد. سواء من حيث الاحساس بالهوية، او من حيث الموقف العاطفي والثقافي ازاء بلد الاقامة.
ب- علاقات الهوية والمكون السيكولوجي الجمعي الناشىء
ما من فرد لا يحمل في ذاته خصائص
بكسرها) ، وثانيها انه قادم من عالم فقر الى عالم ثراء، من عالم مواطنين متروكين الى عالم الضمانات الاجتماعية العظيمة، من عالم الحكم الفردي الاستبدادي والقمع الى عالم الديمقراطية، من عالم الاجهزة الى عالم حقوق الانسان ودولة القانون. من عالم التخلف الى عالم اجتاز الثورة الصناعية الى الثورة التقنية.
لكن هذه الدونية، لا تلبث ان تتوازى مع فوقية مقابلة، فهذا الفرد المقهور يعرف امرين: اولهما ان بلاده وحضارته هما من اسس لهذه الحضارة التي يغبطها، والتي صدر لها كل علم، حتى الاديان السماوية.
وثانيها انه يعرف ان هذه الحداثة الغربية لم تزدهر الا بثروات بلاده المنهوبة ماضيا وحاضرا، من الحرير الى النفط.
ينظر الى الفرد العربي فيراه متفوقا وقادرا بل ومتميزا، وينظر الى العلاقات الانسانية والاجتماعية العربية فيراها دافئة وانسانية وراقية، ولا يملك الا ان يسال نفسه: لماذا؟ ليصل الى ادانة الغرب، والانظمة التي يحميها.
د – التنكر ا والحنين السلفي:
وبما ان الحاضر لا يقدم لهذا المهاجر ما يمكن ان يرضي كبرياءه الوطني او الفردي، بل وما يمكن الا يخجل من الانتساب اليه، فانه امام ثنائية المركب الذي تحدثنا عنه يجد نفسه مشدودا الى واحد من اغراءين:
اما التنكر لكل ما في الهوية الاصلية من سلم قيم، ومفاهيم، بل ومعالجة احساس النقص العام بممارسة تعال خاص، يجعل منه الشخص العظيم الذي يهزا من كل الموروث، ويزدري كل ما في بلاده ماضيا وحاضرا ومستقبلا، يائسا ميئسا، متلبسا ثوب حداثة كثيرا ما يفهمها بالمقلوب، ونادرا ما يفهم السيرورة التاريخية الاجتماعية التي اوصلت الغرب اليها . ويقف في طابور المتنكرين، المتوسلين قبوله، باعتباره الفرد المتميز عن الجماعة (جماعته)، فيما يجعله ايضا الفرد الدون امام الجماعة الاخرى (جماعة بلد الهجرة).
واما، الاغراء الثاني، المتمثل في العودة الى اصولية دينية وحضارية تجعله يقدم نفسه من خلال ماض له فيه كل التفوق، هاربا من ازمات الحاضر واحباطاته . لكنه كثيرا، بل وغالبا ما يجعل من انتمائه الاصولي هذا مجرد اسم هوية لا يدرك في حقيقة الامر كنهها الحضاري. بل يصبح الامر مجرد العثور على اسم في ضياع (l’anonymat)وعلى صيغة دفاع عن الذات وتاكيد لها.
ه – مفهوم الاندماج: الغاء للاخر او التوصل الى مزيج جديد؟ لقاء في منتصف الطريق ام تحصن من على طرفيها؟
في كتابه الشهير “عالم صوفي” تاريخ الفلسفة الاوروبية، يقول النروجي جوستيان غاردير ان المسيحية عندما دخلت اوروبا تحولت الى مسيحية اوروبية ذات ملامح مختلفة عن المسيحية الشرقية، وفي كتاب اخر يورد المؤرخ الفرنسي جان بول بليد مقولة للملك فريدريك الثاني الكبير، مفادها انه اذا كانت المسيحية قد انتشرت في عالم الامبراطورية الرومانية فذاك لان الرواقية كانت قد مهدت لها الطريق. اذا فالرواقية كفلسفة منبعها المشرق الكنعاني في منطقة الهلال السوري الخصيب، قد وسمت الفكر الغربي، اذ تحولت الى عنصر من عناصر مكوناته ، وبذلك وسمها هو بدوره، مثلها المسيحية التي ورثتها في تسجيل هذا التاثير المتبادل . ليصبح رمز الصليب العشتاري الكنعاني، رمز ثقافة القارة التي تحمل اسم اميرة فينيقية كنعانية حملها يوما اله الاولمب على ظهره من الضفة الشرقية الى الغربية للمتوسط. كما حملت المرحلة الرومانية في بلاد العرب اكثر من اله الى المجمع الكنعاني الارامي، كما الى المجمع الفرعوني، بل وكثيرا ما دمجت الهين: غربي وشرقي في مجسم واحد وتحت اسم جديد اوروبي.
هذا التمازج الذي يتم وراء غبار الحروب والعداءات، هو ما وسم ايضا صيغة التبادل في المراحل الوسيطة والحديثة، من اسلامية وصليبية واستعمارية وانتدابية، وارسالية.
عليه لا يمكن للاندماج الا وان يسم المدموج فيه ببعض سمات المدموج، والعكس ايضا صحيح بشكل اقوى واغلب.
فلن يكون المهاجرون العرب والمسلمون في اوروبا، مندمجين، ما كان عليه اجدادهم في بلدانهم الاصلية، ولكن لن تكون اوروبا الحاضنة بعد استيعابها لكل هذه الملايين، هي هي ما كانت عليه قبلهم .
هذه حتمية لا بد من الاقرار بها مع الاقرار ايضا بان بيئة الاستقبال هي الاصل وهي الاغلب لانها ببساطة البيئة الاساس. ولان علاقة الاندماج هذه هي اشبه بعلاقة فسائل الزرع بالارض. خاصة واننا نتحدث عن بيئة قديمة مكتملة التكوين ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا. واذا كان الاكتمال لايعني الجمود وتوقف سيرورة التطور ، فان التطور لايعني ابدا التغير الاساس، يكبر الولد فاذا هو رجل، لكنه لا يصبح شجرة.
بهذه القاعدة العاقلة في قبول قوانين الاجتماع والطبيعة والمنطق، التي تحدد قبول الاخر والتعامل والتفاعل معه، هي التي تحدد كل بحث في عملية الاندماج.
وتحدد بالتالي الجواب المحدد على دور الاعلام العربي الفضائي في هذه العملية، سلبا ام ايجابا.
رابعا : الاعلام الفضائي العربي : خصوصياته في فضائه المهاجر .
(عامل صدام ام ساحة حوار)
1 – الاعلام الفضائي، الفضاء والامية.
الملاحظة الاولى المتعلقة بهذا الاعلام هي تلك التي حددناها اعلاه بالفضاء الجيو لغوي، والثانية هي تلك المتعلقة بالامية اللغوية والشفوية.
الدياسبورا العربية منتشرة على امتداد الكرة الارضية، لكن كثافتها الرئيسية موزعة في اوروربا والقارة الاميركية واستراليا، تليها القارة الافريقية، ومن ثم المناطق الاخرى. انها اذن ترسم فضاءا جيو لغوي يكاد يقارب الفضاء الفرانكوفوني وربما الانكلوساكسونسي. من جهة اخرى ينشا تداخل معقد قومي وحضاري، بين كون اغلبية هذه الدياسبورا من المسلمين، لكن مع وجود المهاجرين العرب المسيحيين ووجود هجرة اخرى من المسلمين غير العرب، الذين يفهمون، بحكم الدين، اللغة العربية ويشاركون في القيم الاسلامية. ذاك ان للاسلام خصوصية ارتباطه باللغة العربية “انا انزلناه قرانا عربيا” “القران عربي والرسول عربي”.
2- الاعلام الفضائي والشفوية (ماك لوهان)
في صفوف هؤلاء المهاجرين ثمة نسبة كبيرة من الامية اللغوية، لكنها في الغالب ايضا امية نسبية، حيث يعجز صاحبها عن القراءة والكتابة لكنه لا يعجز عن الفهم الشفوي، خاصة عندما تاتي الصورة لتعززه. وسنعود الى هذه الاخيرة بتركيز شديد “الصورة”.
من هنا تمكن الاعلام التلفزيوني ان يصل شرائح لم يكن ممكنا للصحافة المكتوبة، او للكتاب، او حتى للاذاعة (حيث تنقصها الصورة) ان تصلها. لكنه خلق حالة من العلاقة الشفوية، الثقافة الشفوية. هذه الثقافة تعيد كما يقول ماك لوهان الى الحالة القبلية، بما في تلك الحالة من فورية في التلقي وانفعالية في ردة الفعل، وتداول شفوي، وتكتل في دوائر تشكل اجساما داخل الجسم الاجتماعي الواحد. مما يمثل خطر التقوقع من جهة، لكنه يخلق في الوقت نفسه حالة كسر الاطواق وفتح المجال امام مزيد من التواصل. ليطرح السؤال: هل يعزز هذا الاعلام العزلة؟ ام انه يكسر العزلة ويخلق فضاءا اخر للحركة ومن ثم للاندماج؟ مما يقود بدوره الى السؤال حول سلم القيم التي يحملها هذا الاعلام وعلاقة هذا السلم بمثيله في دول الدمج.
3-الاعلام الفضائي وسلم القيم:
لا بد لاي اعلام ان يعكس سلم قيم المجتمع الذي يصدر عنه. قد لا تكون سلالم القيم متعارضة بين اوروبا والعالم العربي الاسلامي، لكنها بالتاكيد مختلفة. واذا كان ما يميز الامم والحضارات هو الخط الفكري الذي يشكل عمودها الفقري، فان هذا الخط الاوروبي – سيتاثر نظريا – بالخط العربي الاسلامي. لكن الواقع العملي يطرح امرا اخر غير النظري وهي ان الاعلام العربي الفضائي ياتي في عصر الدفق الاعلامي الغربي، ليس في البرامج فحسب بل وفي مضمونها. وهو بذلك انما يساعد على نشر الثقافة الغربية اكثر مما ينشر الثقافة المحلية. حيث تتوزع البرامج على ثلاثة اصعدة: البرامج المستوردة المبثوثة مترجمة اومدبلجة، البرامج شبه المحلية اي تلك التي تشتري الفضائيات (فورمتها) من جهات غربية وتملاها بمادة محلية، واخيرا البرامج العربية. هذا في البرامج اما في الاخبار فلا يحتاج الامر الى الكثير من التوضيح حول دور وكالات الانباء العالمية المملوكة كلها لاجهزة دولها في بث الخبر، حتى ذلك المتعلق بالساحة المحلية. وهنا تجدر الملاحظة الى ان الفضائيات العربية، او على الاقل بعضها قد حاولت تعويض هذه الهيمنة الكاملة للخبر المبثوث من الوكالات ، بما يقوم به المراسلون الذين يبثون مباشرة من ساحة الحدث. واخيرا ياتي الاعلان الذي يحتل حيزا كبيرا في الث التلفزيوني، خاصة مع خصخصة المحطات. الاعلان هو بكله مرتبط بالاستثمار، والاستثمار المحلي مرتبط بكله بالاستثمار الاجنبي، وكله في سياق سياسة السوق التي يقوم عليها النظام العالمي الجديد.
لذا فان الاعلام الفضائي يعكس بغالبيته قيم العولمة، قيم اقتصاد السوق، قيم الاستهلاك، ويغمر بذلك اوروبا والعالم العربي معا. محاولا اعادة تشكيل وعي المواطن اصليا كان ام مهاجرا.
ان سيادة الدفق الواحد، وانهيار سدود الحماية الثقافية، منذ الثمانينات، وصولا الى هيمنة النظام العالمي الجديد منذ التسعينات، قد جعلت العالم كله تحت رشاش واحد قد تكون الثقافة والحضارة العربية الاسلامية هي المهددة فيه اكثر من أي طرف غربي وهي المتاثرة والمتحولة بالدرجة الاولى. يمكن لهذا التاثير ان يكون ايجابيا ، ويمكن له ان يكون سلبيا . ولا بد لكل من هاتين النتيجتين ان تنعكس على واقع المهاجرين، وبالتالي على المجتمعات الاوروبية. لقد سقطت كل الكمامات الطبية، ولم يعد ممكنا تجنب العدوى باي حال، اذن فالحل هو تقوية جهاز المناعة، وتفعيل البكتيريا النافعة على حساب البكتيريا الضارة.
عليه يحتاج البحث في التاثيرات الممكنة على الاندماج الى البحث في مكونات هذا الخطاب الاعلامي، مكوناته في جزئيه: المنقول عن الغرب، والعربي.
حيث يظهر لنا بشكل مثير ان الخطاب المنقول عن الغرب، غربيا او موحى به، قد يحمل من البكتيريا الضارة اكثر مما يحمله احيانا الخطاب العربي . وذاك لعدة اسباب: اولها يعود الى طبيعة المفاهيم والقيم التي يكرسها هذا الخطاب، اهي مفاهيم التعددية في الوحدة الاجتماعية، ومفاهيم الانفتاح وقبول الاخر، ومفاهيم السلام الاجتماعي و التعايش؟
وثانيها يعود الى صورة الغرب في هذا الاعلام ، صورة الحضارة والحداثة التي يمكن للمتلقي ان يتمنى ويحب ، او صورة اخرى مشوهة تجعله ينفر ويخاف وبالتالي يتقوقع؟
ببساطة اكثر، الفضائيات تعيد الى الغرب ما صدره اليها والى المواطن العربي طوال عقود، من خير ومن شر ، ولناخذ امثلة محددة ذات علاقة بالاندماج، لانه موضوعنا:
- الفئويات الاتنية: لقد عمل الغرب منذ نهايات الامبراطورية العثمانية على ترسيخ التفسيخ الاتني في اجزاء المنطقة العربية التائقة الى التحرر من الاستانة. ونجحت خطط هذا التفسيخ بحيث اصبح مطروحا وكانه واقع طبيعي. لكن التعامل معه على هذا الاساس في الاعلام الفضائي ، يرسخ الفكرة الاتنية لدى المتلقين من المهاجرين، مضيفا عنصر تفجير اتني جديد الى العناصر التي سببت مرير الحروب للعالم ولاوروبا تحديدا.
- الفئويات الطائفية: مثلها تماما كان التفسيخ الطائفي وسيلة الغرب للهيمنة على الاجزاء المذكورة نفسها (ولبنان ابلغ مثال لكنه ليس الوحيد) وها هو التعامل الاعلامي مع التجزئة الدينية العربي كواقع، يغذي الاحساس نفسه بين المهاجرين مهددا السلام الاجتماعي في اوروبا والعالم.
- التنمية : ان غياب خطط التنمية المستدامة في تلك المجتمعات، قد فعل حالة التخلف والفقر، فغذى فرص الظلامية والسلفية المتحجرة، وفعل الخطاب التدميري الصادر من المكبوت والجهل، والذي يمكن ان ينقل عبر الخطاب الاعلامي.
وثمة قضايا ومشاكل كبرى لا يمكن لهذا المهاجر ان ينفصل عنها، حتى ولو ابتعد عن ساحتها في بلاده، هذه القضايا لم تكن انباؤها تصله الا عبر الاعلام الغربي. وهنا كانت تتقاطع ثلاثة عوامل: معرفته العامة بطبيعة تلك القضايا، احساسه العاطفي العام بها ، وافتقار الطريقة التي يقدمها بها الاعلام الغربي الى المثصداقية والعدالة. كان المهاجر يشعر بكل ذلك لكنه لا يعرف الحقيقة بتفاصيلها ولا يصله الحدث الا عبر التواصل البشري والحدس. لتاتي الفضائيات وتجعله على علاقة فورية وحية بالحدث لكانه يعيش في وسطه. ولتضعه بالتالي امام ثلاث ثنائيات خطيرة.
المشاهد المهاجر بين الثنائيات:
أ -ثنائية التلقي، وحتمية المقارنة:
ب- ثنائية واقع الحدث وصورة نقله.
ج- ثنائية الاتهام والدفاع.
يستطيع المتلقي المهاجر، بحكم تمكنه من اللغتين (ولو نسبيا) العربية واللغة المحلية، وبحكم انتمائه المزدوج، شاء ام ابى، ان يتابع الاعلام المحلي والغربي واعلام الفضائيات العربية. مما يمكنه بالتالي وبطريقة تلقائية من المقارنة . فعندما يشاهد مثلا تغطية لما يحدث في فلسطين او في العراق او في اي مكان اخر من العالم العربي او الاسلامي ، لا يستطيع الا وان يقارن بين حقيقة الحدث كما يراه بعينيه، وبين ما ينقله الاعلام عنه . كما يقارن بين صورة هذا النقل في الاعلام العربي الفضائي وصورته في الاعلام الغربي . مقارنتان لا تقوداه بدورهما الا الى نتيجتين: فقدان الثقة بمصداقية وموضوعية الاعلام الغربي ،واعلام المجتمع الذي يفترض فيه الاندماج فيه، واحساس عميق بالغبن، اذ ان احساسه بتحيز هذا الاعلام ازاء القضية المعنية لا يلبث ان يتحول الى احساسه بان هذا التحيز موجه ضده هو. خاصة مع وجود الطرف المقابل (الخصم او العدو) داخل المجتمعات الغربية نفسها. والمقصود بالطرف المقابل الجاليات اليهودية في حالة فلسطين، التي تظل القضية الاساسية في الوجدان العربي الاسلامي، اوالخصم الاخر كالولايات المتحدة الاميركية في حال العراق، وغير الولايات المتحدة من دول اوروبية، قد يكون الغضب ازاءها اقل لان دورها اقل في الحرب والاحتلال داخل العالم العربي.
لكنه غضب قد يحيي ذاكرة كادت تدخل دائرة الماضي، هي ذاكرة المرحلة الكولونيالية بكل ما تعنيه.
وفي حالة من التماهي والاحلال، يشعر هؤلاء المهاجرون بان الاتهام الموجه الى العرب مدنيين ومقاتلين موجه ضدهم، وبان الظلم اللاحق بهؤلاء لاحق بهم ، وبان التحيز الممارس ضد هؤلاء موجه ضدهم. شعورا يعود الى طبيعة الانتماء الى الاصل، الذي قد يتعزز اكثر عن بعد، كما يعود الى كون هذا الظلم هو استمرار و اعادة انتاج للظلم الذي لحق بهم افرادا مجموعات واوطانا. ولانه ايضا يترجم عملية التطهر ( catarthis ) وعملية التماهي (identification ) المعروفتين في طبيعة سيكولوجية التلقي الاعلامي. خاصة وان هاتين العمليتين تلتقيان مع حاجات تكمن في اعماق اللاوعي.. حاجات منها ما ينفذ الى اثبات الذات، ومنها ما ينفذ الى التخلص من عقدة ذنب ما ناجمة عن احساس باشياء كثيرة احدها التخلي ، والى ارضاء الضمير ازاء الواجب الكبير. ومنها ما ينفذ الى مصلحة ما او الى حوافز سيكولوجية كبيرة يخلقها التمثل بما تنقله شاشات التلفزيون.
بذا يشعر المهاجرون انهم مظلومون و متهمون، فيتخذون تلقائيا ردة فعل دفاعية، تستدعي العدل. وربما انتقلت يوما الى مرحلة الهجوم. هذا في حين يجدون انفسهم في حالة من زعزعة الثقة بمجتمع يفترض بهم ان يعمقوا ويجذروا انتماءهم اليه. زعزعة تطال قيما من اهم القيم التي يدعي هذا المجتمع انه يقوم عليها: الموضوعية، المصداقية، العقل النقدي، احترام الحرية والانسان و احترام حقوق الدول.
الاعلام الفضائي وعلاقة الحضارات، حوار ام صدام؟
غير ان ثمة وجها اخر للعملة: ثمة ملامح حضارية وانسانية جميلة وعظيمة في تلك المساحة كان المهاجر مقطوعا عنها ، تغيم في خياله نوستالجيا اذا كان من الجيل الاول او الثاني، وتختفي اذا كان من الثالث، وها هو يجدها امامه فجاة بالصوت والصورة لكانها من لحم ودم. ثمة ملامح حضارية عظيمة في هذه البيئة التي يقيم فيها ويفترض فيه بحكم الكنطق ان يندمج بها. هذه الملامح الحضارية الكبيرة تبدا بالحس الانساني الذي يميز الحضارات القديمة، في مواجهة حضارة المنفعة، وتترجم نفسها عبر المنجز الحضاري في جميع مجالات الحياة من علم وفن وسائر مجالات ابداعات العقل والروح البشريين. هذه المنجزات هي التي بنت كلما التقت مرة عبر التاريخ مرحلة نهوض حضاري للانسانية كلها . وهي ما يطلب التركيز عليه في الخطاب المتبادل من على ضفتي المتوسط، شرقية وغربية، وما وراءهما من امتداد حضاري. قد لا تكون منجزات متشابهة، وقد لا تكون القيم والمفاهيم التي تحملها متماثلة ، لكنه قدر الاختلاف وضرورة احترام هذا الاختلاف. وقدر التفاعل وضرورته. واذا كانت العزلة شبه مستحيلة على المجتمعات البشرية منذ تشكلها، فانها اليوم قد اصبحت مستحيلة قطعيا. مع عصر الثورة التقنية وثورة المعلومات والاتصالات، وسيادة قوانين التبادل الحر الذي لم يعد خيارا بل فرض نفسه عبر السماء التي لا يستطيع احد نصب الحدود فيها. وبما انه لا عزلة اذن فهناك تماس وتداخل، لهما ان يتخذا واحدا من خيارين لا ثالث لهما: اما الصدام واما الصراع. اما البناء واما الهدم.
الحل : الاقفال او الانفتاح؟
بتعبير عملي، لم يعد من الممكن منع الاعلام العربي عن المهاجرين، اذن فثمة خيارين امام الستراتيجيالغربي: اما التفكير بشحن هذا الاعلام بما يدمر سواء من ظلامية او مما في المنتج العربي من تفاهات وقيم مدمرة، وتمرير ذلك بضغط السوق او بضغط السياسة. واما التعامل مع هذا الاعلام بانفتاح حقيقي، والسعي لاقامة تبادل وتعاون حقيقي معه حول كل ما يمكن ان يبني العلاقة بين الطرفين.
غير ان هذا الكلام يظل في باب الطوباويات الحالمة التي لا تلامس الارض اذا لم تتحقق عدالة ما على الصعيدين السياسي والاقتصادي . فالاعلام من اعلم اومن وصل communication = communiquer , information = informer وعليه فهو لايفعل في الحالين الا نقل صورة ما هو موجود على الارض. صحيح انه يمارس بذلك عملية انتقائية مبرمجة وهادفة لكنها بالتالي محكومة بظروف الواقع.
لقد حكمنا قدر التاريخ وقدر الجغرافيا بعلاقة دائمة، ولكنهماتركا للعقل البشري ان يحدد ماهيتها. لقثد فرضا علينا دائما جسرا للعبور، لكنهما تركا لنا ان نحدد عبور من وماذا.