نشر ملخص لهذه الدراسة على موقع الجزيرة نت
حياة الحويك عطية
خريف البطريرك، ام نهوض الكاغواريان؟ وما بعدهما في كوبا
في العام 1998 كان الكاتب الاميركي اللاتيني مانويل فاسكيز مونتابلان يكتب افتتاحية لوموند ديبلوماتيك عن كاسترو ويختمها بعبارة: انه “خريف البطريرك” * وفي الثالث عشر من اب 2006 كانت صحيفة غرانما الكوبية تخرج وعنوانها الرئيسي: “ونهض كاغواريان” * بين الاثنين بدا ان البطريرك قد تجاوز الخريف الى الشتاء لتقترب كوبا من ليلة راس سنة ما، ينتهي معها عام رمزي ويبدا عام اخر قد يشبه الاول وقد يختلف عنه قليلا او كثيرا. واذا كان لب السؤال الذي يشغل العالم منذ عشر سنوات على الاقل يكمن هنا، فان استشراف الجواب لا بد وان يستقرىء جملة عناصر، منها ما يتعلق بكوبا نفسها، من ثم بثورتها، بشخصية كاسترو وشخصية راؤول خليفته، لتعبر الى الوضع السياسي في اميركا اللاتينية كلها، ومن ثم في القارة الاميركية، واخيرا في العالم.
دلالة مهمة تبدا من استعمال غرانما لكلمة كاغواريان، وهي اسم لنوع من السنديان القديم القوي المستعصي الذي تختص به كوبا، فهذه الجزيرة المستعصية بدورها التي تمتد على مساحة 105 كيلومترات ونيف عدا عن بعض الجزر الملحقة، هي عالم شديد الخصوصية ، خصوصية لم تفقدها مع الثورة بل ترسخت فيها اكثر، ففيدال كاسترو ابن العائلة الثرية وتلميذ المدارس اليسوعية و حامل الدكتوراه في القانون، لم يبدا تمرده مستلهما ماركس لينين وانجلز وانما تاريخ اميركا اللاتينية ونضال كوبا ضد الاستعمار الاسباني ومن ثم البريطاني، وشخصية البطل الكوبي خوسيه مارتي التي ظلت تحتل وحدها ساحات كوبا بعد انتصار الثورة بفترة طويلة، ذلك قبل ان يتعرف الى شي غيفارا ويلحق باخيه راؤول الى الثورية الشيوعية. ومن هنا تبدا اول الخصوصيات التي لا بد من التوقف عندها واحدة واحدة للوصول الى الاستقراء المطلوب.
اما ثانيها فهو ان الثورة الكوبية لم تقلب نظاما ديمقراطيا وانما نظام باتيستا الديكتاتوري الفاسد، الذي جاء بانقلاب عسكري وبالتعاون مع الاميركيين المستغلين و الذي كان الشعب يتلهف للخلاص منه.
ثالثها انها لم تخلعه بانقلاب عسكري او مؤامرة بل بثورة حقيقية، حيث لم يبق على قيد الحياة من المناضلين الثمانية عشر الذين نزلوا مع كاسترو على الشاطىء الكوبي متسللين من المنفى الاّ اثني عشر، لم يكن بمقدورهم ان يحتلوا جبال سييرا ماسترا حيث نظم غيفارا حرب العصابات ليتحولوا الى ثمانية الاف ثائر زحفوا على هافانا وتغلبوا على النظام لو لم تكن ثورتهم استجابة لنداء الشعب. فقد يكون صحيحا ما قاله تشرشل يوما من ان عددا قليلا من الرجال يصنعون قدر ملايين من البشر، غير انه عندما يتعلق الامر بثورة شعبية لا بقيادات نظامية، فان هذا العدد القليل لا يستطيع تغيير الاقدار الا اذا اتفقت توجهاته مع الاماني الكامنة للشعوب.
ثالثها ان النظام الثوري الكوبي قد استطاع ان يحافظ، رغم ارتباطه الكبير بالاتحاد السوفييتي، واعتماده الاقتصادي عليه، على نوع خاص من الاستقلالية، لم يصبح كاسترو يوما دمية بيد السوفييت كما كان حال الكثير من زعماء الكتلة الشيوعية، صحيح انه نقل الاشتراكية الى اميركا الشمالية لا الى كوبا فقط، لكن ذلك كان خياره الخاص والحر ولم يمنعه من ان يكون احد اقطاب حركة عدم الانحياز.
رابعها ان عبادة الشخصية لم تستقر في كوبا كما في سائر دول العالم الثالث، فالتماثيل ممنوعة، والصور الكبيرة ممنوعة، وقد علق احد الصحافيين الاذاعيين الفرنسيين بعد زيارته لكوبا، انه لم ير في بيت كوبي صورة كاسترو بمفرده وانما وجد في اغلبها صورة كاسترو مع شخص من افراد العائلة. وهنا تتبدى خصوصية اخرى للشخصية وللنظام، وهي قرب الزعيم من الناس، وفي مثال حي على ذلك انه عندما قررت الحكومة عام 2002 اعادة هيكلة صناعة السكر، ذهب كاسترو الى ارتيميز ليجتمع بعشرة الاف عامل كانوا قلقين على اوضاعهم، ليشرح لهم القرار ويطمئنهم الى عدم التسريح من عملهم وكذلك فعل في سانتا كلارا.
غير ان خامسها، يتمثل في ان اخلاص الرجل، وايجابياته هذه لا تلغي كونه قد مارس نظام القبضة الحديدية الامنية، ونظام الحزب الواحد المسيطر على كل شيء كما في كل الانظمة الاحادية، وان اخطاءا كثيرة قد سجلت على القائد الذي لن يكون يوما الا رمزا رغم كل شيء، والذي بدا وكأن خصومه التاريخيين، من الاميركيين، الى المعارضة الكوبية، الى سائر القوى الغربية قد سلموا بعجزهم عن القضاء عليه وعلى نظامه وراحوا ينتظرون موته، كحل وحيد لاعادة خلط الاوراق. خاصة بع ان اثبتت الرهانات الثلاث الرئيسية فشلها المريع:
راهن الاميركيون بداية على المعارضة التي كانت حليفتهم في احتلالهم للجزيرة، فقامت قيادة الثورة بارسال جميع هؤلاء الى الولايات المتحدة، كهدية مافياوية مزعجة لدولة تكفيها مافياتها الخاصة. ثم راهنوا على غزو عسكري يقوم به هؤلاء للجزيرة مدعومين من السي ايه ايه التي كان يتراسها في حينه جورج بوش الاب، وفشل الغزو فشلا ذريعا ، راهنوا على اغتيال الرجل ظنا منهم ان نهايته تعني نهاية النظام ، ففشلت محاولات الاغتيال التي يقول الكوبيون انها بلغت ستمئة محاولة، ولو قمنا بنزع كل الاصفار منها ، لظل فشلها كلها دليلا على التفاف الشعب حول الرجل وليس فقط على ديكتاتورية النظام وقوته الامنية، خاصة وان من كانوا يقومون بتنظيمها ليسوا اطفالا يلهون وانما خبراء مختصون لاكبر وكالة استخبارات في العالم، راهنوا على خنق الجزيرة اقتصاديا بعد الاصلاح الزراعي، كي ينفك الشعب عن قيادته، فرد كاسترو بتاميم السكروالنفط والنيكل ،وصمد الناس لا بفضل كاسترو ومن حوله فقط وانما ايضا بفضل جذور تعود لعدة قرون من النضال . وعندما حظرت الولايات المتحدة على جميع الشركات الاتجار بالنيكل الكوبي، استطاعت كوبا ان تقنع كندا باختراق الحظر الاميركي ، فتضاعف الانتاج عام 2001 وجاء اخيرا رهانهم الكبير على انهيار الاتحاد السوفييتي، وقرقعة الكتلة الاشتراكية بعده، فاستطاع كاسترو ان يبدي مرونة خاصة، وان على كبير مضض، تجلت قمتها عام 1998 في استقباله البابا يوحنا الثالث والعشرين امام نصب خوسيه مارتي. وفي تحولات اقتصادية تمثلت في الانفتاح السياحي (من 326 الف سائح عام 1973 الى 1و7 مليون سائح عام 2001) الذي يمكن لنا ان نحس كم قبله كاسترو مرغما حزينا ، هو الذي كان يقول انه لا يريد الاعتماد على السياحة لانه احترامه لبلاده يجعله يخشى ان يتبول المارينز على خوسيه مارتي واحترامه للمراة يجعله يرفض ان تمارس الكوبيات البغاء. فاذا به يزفر عميقا وهو يتحدث الان عن “جاذبية الاسهلاك الغربي”. ويرى الكوبيين يتحولون عن العمل الانتاجي في الزراعة والصناعة لينصرفوا الى المهن الحرة ، كما يرى نسبة البغاء ترتفع في كوبا، ويرى البضائع الجيدة والمترفة تباع للسياح ، والمطاعم الجيدة تفتح لهم فقط ، فيما يستعصي كل ذلك على الكوبيين، هو الذي امر المناضلتين معه فيلما اسبان (التي اصبحت فيما بعد زوجة اخيه راؤول) وميلبا هايدي ، عشية عملية الهجوم على ثكنة مونكادا ان يطبخوا الدجاج بالارز ، ويكووا الملابس لجميع المقاتلين، اذ “لا يمكن ان تقاتل جيدا بمعدة جائعة وثياب رثة ” بحسب قوله . انه ولا شك مدخل بليغ الى حلم رجل وطني مخلص وثائر، بثورة تقضي على الديكتاتورية وعلى الاستعمار الاميركي الذي كان يسيطر على كل موارد بلاده، من السكر الى النيكل الى الكوبالت الى التبغ وسائر الزراعة، ثورة تحمل الرفاه مع الكرامة والسيادة الوطنية. واذا كان هذا الحلم قد تكسر للمرة الاولى عندما فشل الهجوم على ثكنة مونكادا، واعتقل الشاب الثائر فانه عاد ونجح بعد عام واحد عندما استطاع المفرج عنه، المنفي ان يعود الى الشاطىء الكوبي مع شيه غيفارا و اخوه راؤول و رفاقهم، ليقود ثورة الاطاحة بباتيستا، بعد ان اعلنوه “قائد الجبهة الثورية الديمقراطية”. وتسجل الثورة نجاحها في 10 يناير 1959، غير ان الحزب الشيوعي لم يتاسس الا عام 1965 ولم يصبح كاسترو رئيسه الا عام 1976.
وكما كل الاحلام من البسيط الى العظيم منها، يتجه مسارها الى ثلاث : اما التحطم على صخرة الواقع ، واما التنازل والتراجع المهينين ، واما التحقق الجزئي والتكيف الجزئي مع هذا الواقع، في براغماتية سياسية تتحدد قيمتها بين الميركانتيلية المكيافيلية، والذكاء الصامد المرن، بمدى ما تستطيع ان تحصر تكيفها بعيدا عن الاساسيات، وبقدر ما تنجز تحققها في الحفاظ على الكرامة والسيادة الوطنيتين، على استقلال القرار الوطني وعلى القيم العليا للشعب.
اذا كان كاسترو قد نجح في تحقيق المرونة على الشكل الثاني ، فان ذكاءه تمثل في ادارة عاملين : تحليل موازين القوى: كيف يمكن له ان يتصرف بحيث لا يمس السيادة الوطنية ، مع تجنب الدخول في مواجهات عسكرية غير متكافئة . وفي ذلك قدرة على خاصة على قراءة موقف وموقع الشعب والثمن الذي هو مستعد لان يدفعه والى أي حد، وتمتين الارادة الجمعية التي تستند الى المقارنة بين ما قبل وما بعد الثورة والى مصير الذين يستسلمون ويزحفون على اقدام الولايات المتحدة من الاميركيين الجنوبيين. هذه الارادة ليست تجميع ارادات فردية وانما هي تتشكل عبر النظام الجمعي ووحدة الشعب التي تتخطى الانقسامات. انها مشروع وسيرورة، ولا يمكن ان تتحقق الا بتوافق قوي حول مفهوم اساسي حتى عند الذين لا يختارون المقاومة منذ البدء.
كل هذا تشوهه وسائل الاعلام التي تريد ان تجعل من كوبا تصمد بفعل ارادة ديكتاتور يعتمد على قبضة امنية، وان موته سيكفي لجعلها تنهار . سيموت ابن الثمانين ، ان لم يكن اليوم فغدا ، وسياتي راؤول، خاصة بعد أن حول إليه كاسترو بعض صلاحيات الرئيس أثناء العملية الجراحية التي خضع لها مؤخرا. وبصفته النائب الأول لمجلس الدولة، أعلى هيئة حاكمة في كوبا، يحل راؤول محل أخيه في رئاسة المجلس في حالة غياب أو مرض أو موت الرئيس لا ليصبح هو كاغاريان بل لان كوبا هي كاغاريان . لكن ذلك لن يعني ابدا ان تحولات جوهرية لن تحدث ، ان بتغير الشخص وان بتغير العالم . خاصة وان الاخ الاصغر لا يصغر اخيه الا بخمس سنوات . لكنها ربما تكفي لحكم عشر سنوات ليس قليلا في عمر التطور ، خاصة مع تسارع التغيرات في اميركا اللاتينية والعالم .
واذا كان الرجل قد اختفى خلف اخيه طيلة اربعة عقود من الزمن بحيث لم يعرف عنه الكثير فان ذلك قد سمح له بان يكون بعيدا عن كل الاخطاء والمآخذ التي التصقت بفيدال، كما ستسمح له بالاقدام على خطوات كان من الصعب او من غير المناسب للاخ الاكبر ان يقدم عليها.
كذلك فان الشائع عن راؤول انه الاكثر تشددا والاسبق شيوعية، بشهادة فيدال الذي قال لمؤيديه ، بعد ثلاثة أسابيع على تقلده السلطة عام 1959: “سأترك ورائي من هو أكثر مني تطرفا”. ذلك بعد ان كان قد اشرف قبل اشهر على اعدام ثمانين من جنود باتيستا، و في عام 1962 اصبح وزيرا للدفاع ونائبا لرئيس الوزراء فقاد المظاهرة الشهيرة امام السفارة الاميركية متهما واشنطن بانها وكر للجواسيس . غير ان متابعة سيرة الرجل تدل على ان تشدده ان هو – كما هي حال رجال الدولة الكبار – الوجه الاخر لمرونة سياسية واقتصادية من ذلك النوع الذي اشرنا اليه اعلاه .
فخلال زيارته للاتحاد السوفياتي في يوليو/تموز 1962، تلقى راؤول وعدا منه بالحصول على صواريخ سوفياتية، وهذا التطور قاد إلى أزمة الصواريخ الأميركية السوفياتية المعروفة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1962 والتي كادت أن تنزلق بالعالم إلى حافة حرب نووية. إلا أن راؤول قام بتحركات استرضائية عرضية تجاه الولايات المتحدة. وفي عام 1964 قال إنه يرغب في إجراء مباحثات مع الأميركان “حتى ولو كانت على القمر”.
وفي قضية الطفل اليان برهن على قدرة ديبلوماسية حيث كان له دور كبير خلال المعركة القضائية التي دامت سبعة أشهر لإعادة الطفل إليان غونزاليس لوطنه من فلوريدا عام 2000.
وبصفته قائدا للقوات المسلحة، كان راؤول ضالعا بعمق في التورط العسكري لكوبا في إثيوبيا وأنغولا في السبعينيات، لكنه من جهة ثانية وجّه جهود المؤسسة العسكرية الناجحة في وقت السلم للمساعدة في إنقاذ اقتصاد كوبا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. كما اظهر مرونة على الجبهة الاقتصادية، . وبصفته وزيرا للدفاع، أشرف على بعض أهم التجارب الكوبية في مجال إصلاحات السوق المحدودة. وأنتجت الوحدات العسكرية وباعت المواد الغذائية في الأسواق الحرة كما أدارت شركة سياحة هامة هي غافيوتا.
كما أبدى راؤول اهتمامه بالنموذج الصيني في اشتراكية المشاريع التجارية الحرة خلال زيارته للصين في نوفمبر 1997. ويرى بعض المحللين أنه حال توليه الرئاسة سيوجه كوبا ناحية نظام الاقتصاد الصيني وسيكون أكثر استعدادا لتسوية الخلافات، والانفتاح. وحتى قوله خلال مقابلة نادرة مع التلفزيون الرسمي في بداية عام 2001 تحدث فيها بصراحة غير عادية عن وفاة أخيه المحتملة وحث الولايات المتحدة على التصالح مع كوبا وكاسترو مازال حيا: “أنا واحد من أولئك الذين يعتقدون أنه من مصلحة السلطة الإمبريالية أن تحاول، رغم الخلافات العميقة معها، تطبيع العلاقات بقدر الإمكان أثناء حياة فيدل”. واستطرد فيما بعد قائلا: “سيصبح الأمر أكثر صعوبة”، ملمحا إلى أنه سيكون أصعب في التعامل معه. انما هو قول يحسب في باب المناورة الديبلوماسية الذكية ايضا، التي تستبق التصريحات الاميركية التي تهدد ضمنا بمنع عملية الانتقال وربما مهاجمة الجزيرة.
غير ان جزيرة السيجار والسكر لاتقع على القمر وهي جزء من اميركا اللاتينية بالدرجة الاولى ومن اميركا بالدرجة الثانية ومن ثم من العالم . ففي اميركا اللاتينية تتجه الامور كلها لصالح الموقف الكوبي، خاصة اذا اتسم باصلاحات جريئة، حيث ان معظم دول هذا الجزء من القارة محكومة الان بانظمة معادية لاميركا، وصلت كلها عبر عمليات ديمقراطية لاغبار عليها، مما يعكس حالة شعبية من جهة وينزع من يد واشنطن ورقة التباكي على الديمقراطية، ومسؤولية نشرها. ولا بد ان يكون على راؤول اتخاذ خطوات تنسجم مع الحالة العامة هذه . من جهة اخرى يبدو ان محور تركيز الولايات المتحدة قد انتقل الان من كوبا الى فنزويلا حيث ولد نجم الابن الروحي لفيدال كاسترو، هوغو شافيظ، الذي يلتقي مع راؤول في اتجاهاته الصينية، الاسبانية. مما يطرح التساؤول حول تنبؤ هنتنغتون بان نهاية الولايات المتحدة الاميركية كامبراطورية، بل وربما تفكيكها سياتي من اميركا الجنوبية؟ و ان تاجيج العداء مع الاسلام هو الضمانة الوحيدة لتماسك الهوية الاميركية في مواجهة الخطر القادم من الجنوب.
هنتنغتون حدد الهوية بحسب المحافظين الجدد بثلاثة محددات : العرق الابيض ، المذهب البروتستانتي، والثقافة الا نكلوساكسونية. وعليه فان الجنوببيين السمر، الكاثوليك، اللاتينيي الثقافة هم النقيض القريب. لكن، هل يكفي ذلك لتاجيج الصراع الذي بدا منذ كوبا ولم يتوقف حتى راينا مؤخرا تداعي الانظمة الموالية لواشنطن، وصعود التيارات المعادية لها الى السلطة بلدا اثر اخر؟ الجواب بالطبع ان لا، فهناك الثقافة دون شك، ولكن هناك قبلها المصالح الاقتصادية، والهيمنة السياسية. حيث ان الولايات المتحدة قد تغذت ومنذ نشوئها على دماء جيرانها. كما انها تعتبر هذه المنطقة الجنوبية مداها الجيوستراتيجي الذي تصر على ان يظل تابعا لها.
واذا كان كاسترو قد مثل رمز المواجهة في الحقبة الممتدة منذ الستينات، فان هوغو شافيظ هو رمز المرحلة الحالية لاسباب تتعدى شخصية الرجلين على ما لهذا الجانب من اهمية، الى طبيعة البلدين وطبيعة المرحلة: فكوبا هي الموقع الجيوستراتيجي في مرحلة المواجهة الستراتيجية مع الاتحاد السوفييتي، في حين ان فنزويلا هي خزان النفط الذي يورد 15 بالمئة من حاجات الولايات المتحدة الاميركية في عصر اقتصاد السوق واحادية الهيمنة الاميركية القائمة عليه. والتي كانت قد ربت من العملاء من كبار الراسماليين الدين اعتادوا على ان يسيطروا على كل ثروات البلاد بالتحالف مع راس المال الاميركي على حساب لقمة شعب فنزويلا… واذا كانت المواجهة مع الزعيم العمالي قد بدات منذ توليه السلطة في كاركاس، فانها قد بدات ذروتها عندما كشف شافيظ عن تفاصيل خطة اميركية لغزو فنزويلا حملت اسم خطة “بالبوا” وبعدها ارتفعت حدة التصريحات، لكن الحدة الحقيقية ليست في التصريحات وانما في الاجراءات العملية التي تقع وراءها: حيث اطلقت فنزويلا تهديدين خطيرين: الاول بوقف شراء الاسلحة من الولايات المتحدة الاميركية، والتوجه في ذلك نحو الصين. توجه لم يتوقف على الكلام بل تعدى الى توقيع اتفاق انشاء مفاعل نووي مع بكين وارسال فنزويليين الى الصين للتدرب عليه. من ثم منعت واشنطن اسبانيا من بيع طائرات الى كاراكاس فردت الاخرى بانها ستعطي ما تملكه من طائرات اف 16 الى الصين وتاخذ بالمقابل سلاحا صينيا. التهديد الاخر تعلق بالنفط، حيث هدد شافيظ بوقف المصافي الفنزويلية في اميركا، وردت واشنطن باتهامه بانه يستعمل اموال النفط لتمويل انشطة وجماعات مناهضة للديمقراطية. وبدات الاعداد لخطة لغزو البلاد، خطة لا تذكرنا الا بعملية خليج الخنازير ضد كاسترو، وعندما هدد شافيظ واشنطن بانها لن تجد، اذا ما اصرت على مغامرتها الجنونية، بحسب تعبيره الا حربا شعبية، ومقاومة ستمتد مئة عام في كل القارة الجنوبية ذكرنا بتصريح كاسترو يوم غزو خليج الخنازير: “لياتي الاميركيون وسيجدونني اول من يلاقيهم على الشاطىء مع بندقية عادية لان العمر محدود وليكتشفوا ان موتي لن يغير شيئا من مقاومة الشعب الكوبي”. كما يلتقي مع مع ما قالته شابة كوبية لصحافي اجنبي قبل اشهر: فيدال هو كرامتنا ولكن لم يكن بمقدوره ان يفعل شيئا بدوننا، لاجلهم ولاجلنا من الافضل للاميركيين الا يفكروا مرة اخرى بغزو الجزيرة اذا ما ذهب فيدال، ولكن لو فعلوا ها نحن جاهزون. وفي مقابل ذلك نسمع توجهات تصالحية من الدياسبورا الكوبية لا ندري مدى صدقها او اتعاظها بما حصل في العراق، او طموحها لما حصّله المتعاونون مع اميركا هناك.
توجه صيني، اصلاحات سياسية اكثر ديمقراطية واقتصاية اكثر ليبرالية ،وتحالفات اميركية شمالية، تمد يدا الى الصين واخرى الى اوروبا وربما من جديد الى روسيا، هدا ما يتوقعه المنطق من راؤول. دون ان ننسى ان روسيا والصين شكلتا منذ ثلاث سنوات ما اسمته بمجموعة تشنغهاي التي ضمت عددا من الدول الاسيوية ومنها بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ودعت ايران الى الحضور بصفة مراقب في اجتماعها الاخير.
لكن ذلك كله لن يمنع واشنطن المحافظين الجدد من استغلال اللحظة ، وها هو كارلوس غويتيريز وزير التجارة الاميركي يصرح: “لقد دقت ساعة الانتقال الى تغييرات ديمقراطية مع انتقال السلطة .” ليليه طوني سنو الناطق باسم البيت الابيض قائلا: ان “حكومته مستعدة لان تقدم اية مساعدات انسانية واقتصادية ومن أي نوع لكوبا “، وهذا ما اكده جورج بوش، في حين اعلنت “لجنة العمل لاجل كوبا حرة” التي تراسها كونداليزا رايس” انه يجب العمل بكل الوسائل كي لا تنجح ستراتيجية انتقال السلطة في كوبا” ويعود بوش ليؤكد بان “هذا يبرهن على اننا نعمل بحيوية لاجل هذا الهدف ولن نرتاح الا اذا تحقق” فيما تقول وزارة الخارجية ان الخطة تتضمن بنودا يجب ان تظل سرية لاسباب امنية ولضمان نجاحها.
هذه التصريحات اوردها بيان وقعه ووزعه اكثر من ستمئة وخمسين كاتبا ومفكرا وسياسيا اميركيا واوروبيا بينهم العديد من حملة نوبل، اختتموه بالقول:
“ليس من الصعب ابدا تخيل ماهية هذه المساعدة وهذه الخطة في ضوء عقلية التدخل العسكري التي تسود الادارة الاميركية الحالية، وفي ضوء ما حصل في العراق. وازاء هذا التهديد المتنامي ازاء سيادة امة وازاء اميركا اللاتينية كلها ، والعالم، نطالب الولايات المتحدة بالالتزام باحترام سيادة كوبا ، وعلينا باي ثمن ان نمنع عدوانا جديدا”.