بالمنظور التاريخي، ثمة تغيير يحدث بقوة على خارطة الشرق الاوسط والعالم العربي. تغيير لا نقصد به ما حصل في تونس او في ليبيا، بل ما يحصل في المشرق العربي والشرق الاوسط. فبمقاييس الايام والاسابيع قد لا يبدو التبدل كبيرا، ولكن بمقياس كتابة التاريخ، نحن نسير الى مصير قد لانتبين ملامحه بوضوح. بؤرة التحول كانت في سوريا، ولولاها لما حصل ما حصل في مصر ولما تاخرت النار في الوصول الى الجزائر، كما وعد وزير خارجية قطر السابق نظيره الجزائري في القاهرة. لكن صمود النظام السوري لا يعني ان الازمة الدموية يمكن ان تنتهي بالعودة بالامور الى ما كانت عليه، ففي المقابل هناك تنام سرطاني للقوى الارهابية التي يذهل المرء لسماع عددها ولا يمتلك ان يسال : من المسؤول عن الاستعداد النفسي لدى كل هؤلاء للتحول الى ارهاببين تكفيريين، من اوروبا الى افغانستان مرورا ب 85 جنسية؟ ثم من الذي ينفق هذه المبالغ الطائلة التي يستوجبها تمويل حربهم؟
المنطقة تتجه الى الحلول، بدا الامر بصفقة التراجع عن الضربة الاميركية لقاء التخلي عن الكيماوي، وها هي بوادر اخرى تلوح في البحرين، عبر لقاء المعارضة مع ولي العهد. مثلها يتبدى واضحا في لبنان عبر المصالحة غير المباشرة بين حزب الله وسعد الحريري، حيث تراجع الحزب في شروطه لتاليف الحكومة وتراجع الحريري عن مقاطعته، ربما ثمنا لعودته من منفاه الاختياري او القسري الى ترؤس وزارة جديدة بعد الانتخابات الرئاسية القادمة. في حين لا تاتي زيارة الجنرال عون الى الفاتيكان خارج هذه الاجواء. ولعل ابلغ دليل – غير التصريحات – الهزال الذي صيغت به جلسات المحكمة الدولية، وكأنه اعلان افلاس. هذا في لبنان. اما في تركيا فالامور ترقص على ايقاع اخر لكنه ياتي ضمن السمفونية نفسها، وفي السعودية ياتي سفر الامير بندر للعلاج غير بعيد عن هذه الانغام. هذا طبعا بعد ان كانت قطر اول منصة للتاقلم والتكيف، هي التي كانت السباقة في بداية التسعينات بالتاقلم مع النظام الدولي الجديد الذي نشا انذاك، بتغيير يطال الاشخاص ولا يطال النظام.
واذا كان كل ذلك ياتي تحت مظلة التغيير الكبير بين الاميركي والايراني، فان المظلة الاكبر هي تلك القائمة بين الكبيرين كيري ولافروف. من هنا يتشكل السؤال : لقد دخلنا مرحلة نظام عالمي جديد رسى على انقاض النظام العالمي الجديد الذي نشا عام 1990. واذا كان اعلان استقرار النظام الاول قد جاء على ركام العراق،وتكيف معه العرب، فهل ان اعلان ولادة الجديد ستاتي على ركام سوريا، وسيتكيف معه العرب؟
سؤال مر، لكنه واقعي ويفرض طرحه سؤال اخر : من الذي ربح من الازمة السورية ؟ الروسي عاد الى موقعه على الساحة الدولية كلاعب اول الى جانب الاميركي، الاميركي احتفظ بمصالحه، الصيني انتقل من مجرد قوة اقتصادية الى كونه قوة سياسية، الايراني حل مشكلته مع الاميركي ومن ثم العالم، الاوروبي خرج بكم من المكاسب بمليارات هي اشد ما يحتاجه في ازمته الاقتصادية، واسرائيل، الرابح الاكبر، الاكبر دائما كما كان الحال في العراق، تخلصت من قوة سوريا الاقتصادية والعسكرية ومن نموذجها في التعدد والتعايش والانصهار، النموذج المحرج للدولة اليهودية.
الخاسر الاول هو سوريا ولكن العرب كلهم خاسرون، صرفوا ملياراتهم لقتل بعضهم بعضا وزرعوا فيما بينهم احقادا لن تمحوها عقود وقرون وربطوا انفسهم بارادات خارجية لن تترك لهم يوما ان يرفعوا رؤوسهم. اما الاسلاميون الذين يدعون الاسلام فقد قتلوا الجيش السوري وكان من الطبيعي ان يقتلهم، ثم انتقلوا الى قتل بعضهم بعضا لتصبح سوريا مصفاة تتخلص فيها كل دول العالم منهم على حساب السوريين والعرب. وتحت ضجيج ذلك كله ضاعت القضية المركزية وكدنا ننسى فلسطين، بل كادت تنسى نفسها.
سياتي جنيف، ليطلق شيئا ما، وستتطور الامور بعد جنيف الى ما يشبه الطائف بالنسبة الى لبنان مع فارقين : الاول ان الدولة السورية ما تزال متماسكة بمؤسساتها مما يؤهلها لتلقف الحلول والتغيير، والثاني ان هذا الحل سيحقق خطة اميركية معلنة بتحويل الجيوش الى مكافحة الارهاب بدلا من محاربة اسرائيل. وسنجدنا جميعا مضطرين الى تاييد ما لا منه بد. وفي كل هذه الحتميات ترتسم خريطة سياسية جديدة ونظام اقليمي وعالمي جديد.