“مستر كيري”! هل كان من باب الصدفة أن يخاطب وليد المعلم جون كيري بالاسم عندما أراد أن يقول جملته العقدة في مونترو: لا أحد غير الشعب السوري يقرر مستقبل الرئيس الأسد؟
ما أراده المعلم من خلال توجهه لكيري هو القول له أولاً، وللعالم ثانياً، إنك أنت المفاوض الحقيقي الذي يواجهنا في هذه الحلبة الدولية.
المفاوض الرئيسي، لا لأنه من يفرض قراره على الائتلاف فحسب، بل لأن ثمة مفاوضات قد بدأت بين دمشق وواشنطن، بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الروسي.
الصحفيون الحاضرون نقلوا من اسطنبول أن فورد أبلغ الائتلاف أن لهم الحق في أن يشكلوا وفدهم كما يريدون، ولكن ليس لهم الحق في أن يرفضوا المشاركة.
غير أن المعلومات الأكثر أهمية هي تلك التي أبلغها دبلوماسي أمريكي في مونترو للصحفيين حول اتصالات بين الإدارة الأمريكية والحكومة السورية، وحول اتفاق مع الروس على منع إقامة حكم إسلامي في سوريا، رغم أن واشنطن تحاول أن توفّق بين هذا الغرض وبين استبعاد الأسد. فهل هذه العقدة المتبقية – وهي ليست بالهينة – هي التي أراد المعلم إعلان الموقف السوري منها متوجهاً إلى كيري، فيما يعتبر كلمة التفاوض الحقيقية الوحيدة في جلسة السيرك السويسرية تلك؟
عملية التفاوض إذاً، جارية خارج جنيف ومؤتمرها، وما أعلنه هيثم منّاع من على شاشة “بي بي سي” يؤشر إلى نقاط أخرى تضعها واشنطن على الطاولة: استبدال الأسد بعلوي آخر (لا بأس إن يرشحه هو) والحصول على مقعدين في الحكومة، ومقعدين في هيئة الأركان مواليين للولايات المتحدة، وينتهي الأمر.
كل عاقل يعرف أيضاً أن هناك حزمة مصالح أخرى تدخل في الرهان، مصالح لا يدخل في حسابها الشعب السوري بشقيه المعارض والموالي، ولا تدخل في حسابها المطالب الإصلاحية التي تؤمّن لهذا الشعب بشقيه مستقبلاً أفضل يضمن السيادة والوحدة وقوة الدولة. مصالح منها ما هو في سوريا، ومنها ما هو في الإقليم، ومنها ما يتعداه إلى آسيا منذ أن أعلنت إدارة أوباما قرارها بنقل اهتمامها إلى المحيط الهندي.
شبكة مصالح تطال الطرف الروسي، ومعه الصيني، ولا شك أن حساباتها قد تم بحثها وترتيب إيقاع مسيرتها خلال زيارة المعلم وظريف إلى موسكو قبل جنيف.
إيقاع قد يتضمن فشل جنيف 2 للوصول إلى جنيف 3 بمشاركة المعارضة السورية الحقيقية والتي لها ثقل في الداخل، وإلا فكيف يمكن فهم تخلي موسكو عن تمثيل هيئة التنسيق وسواها من تنظيمات المعارضة المعتدلة وغير الإسلامية؟
وزير الإعلام السوري حدد، في مونترو، السقف التفاوضي: لا ممرات إنسانية، بل رفع لمستوى إدخال المساعدات بإشراف الدولة. لا إطلاق شاملاً لسراح الأسرى، بل تبادل لمعتقلين من الجانبين. لا وقف شاملاً لإطلاق النار، بل تفاهمات أمنية يتم من خلالها خروج الجيش والمسلحين من بعض مناطق الاشتباك لتدخل الشرطة السورية. والأهم: لا تنحّي للرئيس. وقد تبين أن الأجزاء الأولى من بنود هذا السقف قد بدأت تتحقق في جلسات جنيف، بدءاً من تراجع الائتلاف عن رفض التفاوض على الجزئيات قبل بحث التنحي، وصولاً إلى إعلان الإبراهيمي عن تأمين المساعدات الإنسانية بالتنسيق بين الأمم المتحدة ومحافظ حمص. لكن السيرورة لم تلبث أن تعثرت، وعاد برهان غليون يتحدث عن الفصل السابع، وعاد الأخضر الإبراهيمي يطرح مع المعلم موضوع الهيئة الانتقالية، ما يؤكد حصول ضغوط متفاوتة على المعارضة.
لن يكون سهلاً على واشنطن ولا على حلفائها الوصول إلى آخر التراجع، خاصة أن هناك أطرافاً مهمة من هؤلاء الحلفاء لا تزال تقاتل لمنعه. وإذا كانت واشنطن قد اضطرت للضغط على الأمم المتحدة لتقديم ثمن المشاركة الائتلاف في جنيف بسحب دعوة إيران، فإنها تحاول حفظ ماء الوجه لها ولحلفائها بالمطالبة بإقصاء الأسد ثمناً لعقد صفقة نهائية.
لكن موازين القوى قد تغيرت، كما اعترف دبلوماسي أمريكي في مونترو للصحفيين مضيفاً: “لقد أصبحنا عقلانيين بعد أن كنا نؤكد أن الأسد سيسقط خلال شهرين”. إذاً ما الحل؟ ومن سيدفع الثمن؟ يبدو أن الروس والأمريكيين لا يأخذون بالاعتبار المطامع الفرنسية والمواقف الأكثر تشدداً وعليه حاول الأوروبيون التلويح بالعصا في مطار أثينا، وحاولت آشتون مد جزرة للمعلم على طاولة الغداء في مونترو.
محاولات أوروبا المتنوعة هذه تتركها واشنطن، بل وتوظّفها حين تريد، للإغراء أو الضغط، طالما أن الصفقة لم تنضج بعد. وعليه كان المعلم يعرف ما يقول ومن يخاطب عندما وجّه كلامه للوزير: مستر كيري.