الدائرة

مؤلفات، 08-09-1996

تعال واكتبه بايقاع شاعر”

بهذه الدعوة ترد عشتار على اعتراض الشاعر فيلوديموس، عندما يقول لها:

“المستقبل لا يقرا بالحان الندب”

تراني كنت وانا اكتب هاتين العبارتين، في الفصل الاخير من “الدائرة”، اعبر دون ان انتبه الى الدافع العميق الذي يجعلني اكتب، وجعلني اكتب المسرح بالذات؟ وفيه استلهم عمل سنوات طويلة على الاسطورة والتاريخ، وانخراطا لا محدودا في نار الواقع ومائه، وتفاعل ميداني طويل مع المسرح العربي والعالمي، منذ ان اراد ابي ان يطلق علي اسم كارمن تيمنا براقصة مسرح كان يحب الى ان عجنت طفولتي بعالم الفنون مع العم الرائد المتعدد يوسف الحويك، الى تجاربنا المسرحية السنوية في المدرسة، ومديرنا كاتب مسرحي، الى عالم مسارح بيروت الثري في الستينات والسبعينات، نوفر فيه من مصروف الاسبوع لطالب جامعي، ثمن تذكرة لطقس اسبوعي مع شوشو او ايفيت سرسق، مع روجيه عساف او يعقوب شدراوي، ونسير وراء شاحنة قوى الامن وقد حولتها نضال الاشقر الى مسرح، يوم اعتقلت وزملائها خلال عرض “كباريه”، كما نتبع “مجدلون” الى القرى الحدودية التي تتوالى عليها غارات الصهاينة كما توالي الليل والنهار، لنعود فنرتاح مع فيروز او عبد الحليم كركلا، ونتعمق في هوية المسرح اعادة خلق جميلة للتراث والموروث وفعل مقاومة وتغيير.

لكن نضج التجربة الانسانية والسياسية، جعل الامور تتعمق اكثر فيما وراء القطعية الثنائية، والخيارات المنجزة، حيث الصراع الدرامي الحقيقي الصادق داخل النفس الانسانية، وحيث التردد قبل القرار، والخوف حتى لدى الاله، والخيوط اللامعدودة التي تتجاذب الشخصية الانسانية الى ان ينتصر بعضها على بعض.

الذلك كتبت في محاولة مني لقراءة الواقع بايقاع بعيد عن الندب، وبعيد عن نمطية الشخصية وغريب عن الموت الذي يحاول ثني كل قوة خصب فينا عن عملية البحث؟ ايمانا بازلية قوة الخصب هذه، ورفضا لاستكانة حاضر قد يموت فيه الفعل الموت يقصر امام القوة الكامنة التي لاتموت. بل رفضا للاستكانة لاية اجابة على الاطلاق، رفضا للسدود والحدود والمحتوم والقطعي.. رفضا للمومياءات والمتحاف ورفضا للتنكر لفصيلة الدم ولون العينين، في ان واحد.

محاولة قول كلمة في كل شيء:

في الرياء والصدق، في السياسة والحرب، في الاقتصاد، في الحلم والمواجهة والانبعاث، في المراة، في وحدة المفكر والمناضل، في الثقافة والتغريب والانتماء، في الانسان والارض.

لكنني في الواقع، وللصدق، لم اقصد ان اقول شيئا من ذلك بمعنى التخطيط والقصدية، ولم اكتشف وجوده الا بعد قراءات ومناقشات، بل وبعد صدور الكتاب المطبوع وسماع الاصدقاء وقراءة النقاد… النقاد الذين راى كل منهم في عملي شيئا مختلفا تماما عما راه الاخر، وربما عما كنت قد انتبهت له.

فانا كاتبة جئت المسرح من الكتابة وليس العكس فكان عملي كما كتب زياد بركات في جريدة النداء: “يتتبع خط الكتابة المسرحية لدى سعد الله ونوس والفرد فرج، من حيث كونها ليست اعدادا او تخطيطا عاما يهدف الى التحول الى تمثيل وحسب، بل ان اهمية النص تستند الى كونه نصا ابداعيا بالدرجة الاولى قابلا للمسرحة بالدرجة الثانية، مما يستدعي بالضرورة، انتباها غير عادي وذائقة تستند الى ثقافة عالية لا تكتفي بالتطور الدرامي الساذج، وتكون لمبدع اخر للنص المسرحي ونقصد المخرج للتعامل مع نص غير عادي باسلوب وتقنيات غير عادية، ووفق رؤية جديدة”.

1      2

وانا كاتبة توزعت تجربتها، فيما لا اعرف ما اذا كان عيبا ام ميزة، على حقول لا يمكن ان يتسع لها عمر واحد:

العمل الحقوقي، والتربوي، والترجمة، والاعلام، من الاعلام المكتوب الذي عبرت جميع مهماته واقسامه واستقريت كاتبة مقال في اكثر من صحيفة عربية (تجاوزت فيها السبعة الاف مقال)، الى المرئي المسموع معدة ومقدمة لعدة برامج، ومشرفة على 28 فيلما وثائقيا، وضيفة اساسية في ما يقارب المئتي حلقة وحوار كاملين، الى العمل على الترجمة عبر 22 كتابا ومئات المقالات والدراسات والنصوص الابداعية، اضافة الى الابحاث التي بلغت حتى الان 45 دراسة وبحثا. ومؤخرا غوص في الدراسات الاعلامية ووسائل الاتصال الجماهيري، انتج حتى الان رسالة جامعية وكتابين معدين للطبع. ليبقى اخيرا حيز ما للعمل الذي احبه اكثر من اي شيء سواه: الكتابة الابداعية واتوزع فيها على عدة مجالات. هنا فقط اجد متعتي واستراحتي، وهنا فقط اشعر بالخوف امام النشر والمواجهة واحسد بعمق الكثيرين ممن يرضون عن انفسهم ويمتلكون شجاعة غريبة في الادعاء، والفرح.

لذا، لهذا التوزع، ولان النهار وللاسف 24 وعشرون ساعة فقط، لم انشر بعد الدائرة، نصا لي رغم انني كتبت ثلاثة، ولكنني عوضتها بنشر اربعة نصوص مترجمة لثلاثة كتاب من الاهم عالميا، ومن المعاصرين الاحياء: كارلوس فوينتيس (جائزة نوبل في الاداب) وقد قدم النص في المسرح القومي في القاهرة بعد تمصيره، وفاليري نوفارينا وبرنار ماري كولتيس. وكذلك قمت بترجمة كتاب نظري نقدي بعنوان “كيف نقرا المسرح المعاصر”؟

اتوقف عند الدائرة:

وبدءا من الاسم الذي يشكل بحد ذاته رؤية معينة لفلسفة التاريخ بمعناه الذي يضم الماضي والحاضر والمستقبل.