بين شاشة الكومبيوتر وشاشة التلفزيون تتنازعني رغبتان لا تشابه بينهما، فهنا واجب المقالة اليومية التي تتحول الى اكثر من واجب مهني، مع تدفق وتزاحم الاحداث المصيرية في امتنا المستلقية بين سكيني التآمر والعجز، وهناك البث المباشر لمحاكمة الرئيس العراقي صدام حسين.
محاكمة العصر ؟ ام محاكمة مرحلة وخطاب وخط. محاكمة الخط القومي بسلبه وايجابه، باقصى تجلياته، محاكمة كان لنا ان نقبل، بل ان نطالب بان تكون قاسية وصارمة لو قام بها المواطن العربي، في ظل سيادة عربية، وحرية عربية، لتكون محاكمة الاخطاء التي ارتكبها الخط القومي، وذلك لتصحيح مسار هذا الخط كي يصبح اداؤه افضل، وتصبح مسيرته مضمونة نحو الاهداف القومية الكبرى.
لكنها وللاسف ليست شيئا كهذا، ان هي الا محاكمة المحتل لرمز السيادة الوطنية،(الرمز بالمعنى الدستوري لان المعني هو رئيس الدولة وفق التعريف الدستوري) ومحاكمة عملاء الاحتلال لمن رفض الاحتلال وما زال رمزا لفضيل كبير من فصائل مقاومة الاحتلال.
رغم ان المحاكمة لا تنقل لنا بشكل مباشر، وانما بفارق نصف ساعة، كما تقول مذيعة الجزيرة، فان اللحظة الاولى التي لم يتوفر قطعها سجلت لنا قدرة الرئيس العراقي الفذة على براعة الاستهلال، اذا كان لنا ان نستعير تعبيرا من تعابير النقد الادبي، فبملاحظة صغيرة حول التعامل معه عند اصطحابه الى القاعة، استطاع هذا الرجل القيادي فعلا، ان يضرب على احياء وترين يلخصان عمق الحساسية العراقية والعربية كلها، السيادة الوطنية، والاسلام : بدأ بآية قرآنية موجهة للمجاهدين، اي للمقاومة، وبدا الاحراج كبيرا على وجه القاضي الذي لم يكن بامكانه ان يمنع تلاوة القران الكريم، فاسقط في يده، واضاف: ” كنت احمل القرآن الكريم فأخذ من يدي”، ومن ثم: ” لا اريدك ان تطلب منهم، بل ان تامرهم، مهما كان رأيي بك، فانت عراقي، وهم محتلون غزاة ” من يستطيع ان يقول ان صدام حسين لم يقلب الادوار هنا، لم يحول المتهم الى مدع والمدعي الى متهم مطالب باثبات العكس ؟ من يستطيع ان يقول ان صدام حسين لم يمس الوتر العميق الذي تعزف عليه كلمة: انت عراقي ؟ من يستطيع ان يقول ان هذه العبارة لا تلخص خطابا كاملا يمكن تفصيله بمجلدات: ” انت عراقي… وتنهمر على الحس ابعاد تمتد من سومر الى القادسية، ومن الكرامة والاعتزاز الى واجب مقاومة الاحتلال والتعامل معه؟ من يستطيع ان يقول ان هذا القاضي الذي تلقى تدريباته على يد دول الاحتلال، وجاء ليحكم باسم الشعب العراقي، يمكن ان يظل بارد الحس ازاء هذا النداء، حتى وان لم يكن له ان يتراجع عن شيء ؟ من يستطيع ان يحلل كل التاثير الذي يمكن ان تخلقه هذه الرسالة التاريخية التي لخصت بكلمات؟ من يستطيع ان يقول ان المحاكمة لم تنته هنا؟